لغز الطاعون الأول: خيطٌ وراثيّ يقودنا إلى راعٍ صامت قبل آلاف السنين

لغز الطاعون الأول: خيطٌ وراثيّ يقودنا إلى راعٍ صامت قبل آلاف السنين
مصر:إيهاب محمد زايد
قبل أن يضرب “الموت الأسود” أوروبا في العصور الوسطى، كان طاعونٌ آخر قد اجتاح أوراسيا على مدى ألفي عام كاملة، تاركًا بصمته في عظام البشر وحدهم… أو هكذا كنا نظن.
دراسة جينية حديثة تكشف الآن مفاجأة مذهلة: أقدم طاعون معروف في تاريخ البشرية لم يكن حبيس الإنسان فقط، بل حمله حيوانٌ أليف عاش إلى جانبه.
لطالما حيّر علماء الآثار سؤال بسيط في ظاهره، عميق في جوهره: كيف انتشر طاعون العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي على هذا الاتساع الجغرافي الهائل، من دون الوسيط المعروف لاحقًا، أي البراغيث؟
اليوم، وبعد عقود من الغموض، يبرز خيط جديد من قلب الحمض النووي.
في إطار دراسة واسعة تتعقّب هجرات الماشية مع البشر من الهلال الخصيب عبر أوراسيا، قام فريق من الباحثين بتمشيط بقايا DNA من عظام وأسنان أبقار وماعز وأغنام عاشت قبل أربعة آلاف عام.
المهمة لم تكن سهلة؛ فالحمض النووي القديم غالبًا ما يكون ممزقًا، مختلطًا ببقايا كائنات سكنت الجسد بعد الموت، أو تآكل بفعل الزمن.
تصف عالمة الآثار تايلور هيرمس هذا التحدي بقولها: عندما نفحص DNA الماشية القديمة، نحصل على حساء جيني معقد من التلوث. إنه عائق… لكنه أيضًا فرصة.
فرصة للبحث عمّا لم يكن مقصودًا: مسببات الأمراض.
وفي أحد المواقع الأثرية في جنوب جبال الأورال بروسيا، وتحديدًا في مستوطنة “أركايم”، توقّف الباحثون فجأة. ففي سنّ خروفٍ مستأنس عاش قبل نحو 4,000 عام، عثروا على بصمة وراثية لبكتيريا الطاعون: Yersinia pestis سلالة قديمة، سبقت قدرتها على استخدام البراغيث كوسيط للعدوى.
هذه هي المرة الأولى التي يُكتشف فيها طاعون العصر البرونزي المتأخر في حيوان غير بشري. اكتشافٌ يقلب التصورات السابقة رأسًا على عقب. نعلم أن البشر في تلك الحقبة ماتوا بأعداد كبيرة بسبب هذه السلالة نفسها، وقد وُجدت آثارها الجينية في هياكل عظمية تفصل بينها آلاف الكيلومترات. لكن كيف انتقلت العدوى بهذا الاتساع؟
الآن، يبدو الجواب أقرب: الأغنام.
من السهل تخيّل قطعانٍ ترعى عبر سهوب أوراسيا الشاسعة، تحتكّ بحيوانات برية تحمل البكتيريا دون أن تمرض، ثم تنقلها بهدوء بين القطعان والرعاة. ومع أن الباحثين لا يستبعدون انتقال العدوى من الإنسان إلى الحيوان، إلا أن الصورة التي تتشكّل أكثر تعقيدًا.
تقول هيرمس:«لا يمكن أن يكون الناس وحدهم هم من تحرّكوا. هذا الخروف المصاب منحنا اختراقًا حقيقيً. اليوم، يرى الفريق أن الطاعون كان نتاج ديناميكية ثلاثية: بشر، ماشية، ومستودع طبيعي ما يزال مجهولًا ربما قوارض السهوب، أو حتى طيورًا مهاجرة.
اقتفاء أثر أمراضٍ قديمة كهذه مهمة محفوفة بالصعوبات. فالحيوانات لا تُدفن بعناية كما يُدفن البشر، وغالبًا ما تصل إلينا بقاياها بوصفها فضلات طعام. وكثير منها كان مطهوًا والطهو عدوٌّ شرس للحمض النووي.
كما يشير الباحثون إلى تحيّزٍ آخر: البشر يتجنبون أكل الحيوانات المريضة، ما يعني أن العينات الأثرية تميل إلى تمثيل الحيوانات السليمة، لا المصابة. وحتى إن أُكل حيوان مريض، فقد يُعدي عشرات البشر، بينما تضيع بقاياه إلى الأبد.
لهذا السبب، فإن هذا الاكتشاف نادر على نحو استثنائي. إنها ثالث مرة فقط يُعثر فيها على طاعون قديم في حيوان، بعد جرذٍ من العصور الوسطى وكلبٍ من العصر الحجري الحديث لكن تلك العينات كانت شديدة التفتت، ولم تسمح بنتائج موثوقة.
ما يزيد الاكتشاف إثارة هو السياق الثقافي. فموقع أركايم يرتبط بثقافة “سينتاشتـا”، المعروفة بصناعة أسلحة برونزية متقنة، وركوب الخيل، ونشر جيناتهم عبر آسيا الوسطى. وقد كُشف سابقًا عن إصابة أفراد من هذه الثقافة نفسها بسلالة الطاعون ذاتها.
في زمن هذا الخروف المصاب، كان شعب السينتاشتـا قد بدأ لتوه توسيع قطعانه، مستفيدًا من مهارات ركوب الخيل التي سمحت لهم بقطع مسافات أطول، وزيادة الاحتكاك بالحياة البرية… ومعها، بالخطر غير المرئي.
ومع ذلك، يحذّر الباحثون من القفز إلى استنتاجات نهائية. فجينوم واحد لا يكفي لرسم صورة كاملة عن بيئة هذا الطاعون البدائي، ولا عن مستودعه الطبيعي الذي ما يزال طليقًا في صفحات التاريخ. لكن ما بات واضحًا الآن، أن الطاعون حتى في فجر الحضارة لم يكن مرض مدنٍ فقط، بل سافر مع القطيع، وخبّأ نفسه في صمت الحياة اليومية، قبل أن يترك أثره العميق في مسار البشر. لقد كشف الحمض النووي سرًّا قديمًا، لكنه في الوقت ذاته فتح باب أسئلة جديدة… عن العلاقة المعقدة بين الإنسان، وحيواناته، وأمراضه الأولى.



