حين يتحوّل الحرير إلى فخّ حيّ:

حين يتحوّل الحرير إلى فخّ حيّ: صورة تكشف سر “شبكة التغليف” لدى عنكبوتٍ غريب
مصر:إيهاب محمد زايد
في عالم الطبيعة، كثيرًا ما تختبئ أعجب الأسرار في أصغر التفاصيل. وأحيانًا، لا يكفي أن ننظر… بل علينا أن نقترب، كثيرًا، حتى مستوى الميكرونات. صورة مجهرية فائقة الدقة لعنكبوتٍ أسترالي نادر فعلت ذلك تمامًا، فكشفت سرّ شبكة تبدو وكأنها تغلّف فريستها كما يفعل النايلون الحراري.
الصورة، التي التقطها عالم الأحياء مارتين راميريز مع زملائه، فازت بجائزة مسابقة التصوير العلمي التابعة للجمعية الملكية لهذا العام. لكنها ليست مجرد عمل فني؛ إنها نافذة مذهلة على هندسة طبيعية متقنة، صاغها التطور عبر ملايين السنين.
ما نراه في الصورة خيطان رفيعان من حرير العنكبوت، لا يتجاوز سمكهما بضعة ميكرونات، مصوّران بالمجهر الإلكتروني. وعلى هذا المقياس المتناهي في الصغر، يظهر الحرير كحبلٍ مزخرفٍ بالحواف، متموّج، أشبه بنسيجٍ صوفيٍّ دقيق. هذه التفاصيل، غير المرئية للعين المجردة، هي مفتاح الفخّ القاتل.
العنكبوت المعني هو عنكبوت الشبكة القاذفة الأحمر (Asianopis subrufa)، المعروف سابقًا ضمن جنس Deinopis. وعلى عكس عناكب النسّاج الدائري التي تبني شباكًا واسعة مرصّعة بقطرات لاصقة وسامّة، يعتمد هذا العنكبوت على خاصية مختلفة تمامًا: المرونة الفائقة.
ليلًا، يصنع هذا العنكبوت شبكة صغيرة للغاية، لا تتجاوز حجم طابع بريدي. لكنها ليست شبكة عادية، بل مصنوعة من نوع خاص من الحرير يُعرف باسم الحرير المشطي (cribellate silk) ، يُنتج عبر عضو فريد يُسمّى “الكريبيليم”، يحتوي آلاف الثقوب المجهرية. من كل ثقب تُسحب ألياف نانوية منفردة، تتشابك معًا لتكوّن حريرًا يبدو كالصوف الناعم… لكنه أقوى مما يوحي مظهره.
يشبه هذا الحرير رباط الشعر المطاطي: قلبه مرن يتمدد إلى حدٍّ أقصى، تحيط به طبقة من ألياف أصلب تمنحه المتانة، وتشكّل تلك “الكشكشة” الجميلة التي أبرزتها الصورة الفائزة. هذا التزاوج بين المرونة والقوة هو سرّ الفعالية.
في أثناء الصيد، يتدلّى العنكبوت رأسًا على عقب، ممسكًا بالشبكة الصغيرة من زواياها الأربع بأرجله الأمامية. ولديه ثمانية عيون، اثنتان منها كبيرتان ومتجهتان إلى الأمام، تشبهان عيوننا، وتمنحانه قدرة مذهلة على الرؤية واستشعار الحركة في الإضاءة الخافتة.
ولكي يحسّن فرصه، يرشّ العنكبوت أرضية منطقته ببقع بيضاء من فضلاته. في الظلام، تصبح هذه البقع علامات مرئية ممتازة. فإذا مرّت حشرة وألقت ظلًا عابرًا فوقها ولو لثانية واحدة يبدأ الهجوم.
في تلك اللحظة، يُقذف النسيج الحريري فوق الفريسة. يتمدد حتى ثلاثة أضعاف حجمه الأصلي، ثم ينكمش بسرعة، ملتفًا بإحكام حول الحشرة. والنتيجة؟ فريسة مغلّفة بالكامل، كما لو وُضعت داخل غلافٍ حراريٍّ حيّ.
الصورة الفائزة لا تشرح هذا السلوك بالكلمات، لكنها تفعل ما هو أبلغ: تُريه. فهي تذكير بأن أعقد الابتكارات لا تأتي دائمًا من المختبرات الحديثة، بل من كائنات صغيرة تعمل بصمت في ظلام الليل.
وحين نمنح أنفسنا لحظة، ومجهرًا، نكتشف أن شبكة عنكبوت لا تُمسك الفريسة فحسب… بل تحكي قصة براعة الطبيعة في أدق صورها.



