دراسات وابحاث

حين تتكلم الذكريات: ماذا تقول 38 مليون مرثية عن معنى الحياة الجيدة؟

حين تتكلم الذكريات: ماذا تقول 38 مليون مرثية عن معنى الحياة الجيدة؟

مصر:إيهاب محمد زايد
المراثي ليست مجرد وداعٍ أخير، بل مرايا صغيرة تحفظ ما أرادت العائلات أن يبقى من أحبّتها في الذاكرة. ومع تعاقب السنين، تتحول هذه الكلمات الهادئة إلى سجلٍّ ثقافيٍّ عميق، يكشف ما الذي كانت المجتمعات تقدّره، وما القيم التي رأت أنها تستحق الخلود.
في دراسة نُشرت في دورية Proceedings of the National Academy of Sciences، قام فريق من العلماء بتحليل ما يقارب 38 مليون مرثية لأمريكيين نُشرت بين عامي 1998 و2024. لم يكن الهدف إحصاء الكلمات فحسب، بل قراءة التحولات الخفية في القيم الإنسانية: ما الذي نختار أن نذكره حين يغيب الإنسان، وكيف يتغير هذا الاختيار عبر الأجيال، والمناطق، والأحداث الكبرى.
اعتمد الباحثون على نصوص منشورة في موقع Legacy.com، وهو فضاء رقمي تلجأ إليه العائلات لتخليد ذكرى أحبّائها. ومن خلال أدوات تحليل لغوي متقدمة، استندت إلى قوائم دقيقة من الكلمات اليومية المرتبطة بالقيم، حاول العلماء فك شيفرة اللغة التي نكتب بها وداعنا الأخير.
في حياتهم، يهتدي معظم الناس بعدد محدود من القيم الكبرى: رعاية الآخرين، احترام التقاليد، حماية المقرّبين، والسعي إلى النمو الشخصي. والسؤال كان: أيٌّ من هذه القيم يطفو على السطح حين نروي قصة الحياة بعد انتهائها؟
الإجابة جاءت واضحة، ومدهشة في بساطتها.
على امتداد ما يقارب ثلاثين عامًا، كانت قيمة “التقاليد” هي الأكثر حضورًا في المراثي، عبر الإشارة إلى الدين، والعادات الراسخة، والالتزام بما توارثه الناس جيلًا بعد جيل. تلتها مباشرة قيمة “الإحسان”، أي العناية بالآخرين والحرص على خيرهم. وقد شكّل هذان البعدان معًا العمود الفقري للذاكرة الجماعية، إذ ظهرا في أكثر من 70٪ من المراثي.
في المقابل، نادرًا ما احتفت الكلمات بقيم مثل “الإنجاز” أو “القوة” أو “النفوذ”. كأن الذاكرة، حين تهدأ، تختار اللطف على المجد، والاستمرارية على الانتصار.
غير أن التاريخ لا يمرّ دون أن يترك بصمته.
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، تغيّرت لغة المراثي بشكل ملحوظ. الكلمات المرتبطة بـ“الأمان” مثل النجاة، والصحة، والنظام تراجعت، بينما ارتفع حضور مفردات “الإحسان” و“التقاليد”: الرعاية، والوفاء، والخدمة. وكان هذا التحول أكثر وضوحًا في نيويورك، حيث كان الجرح أعمق وأقرب.
أما جائحة كوفيد-19، فقد أحدثت الزلزال الأكبر. منذ مارس 2020، انخفضت بشكل حاد الكلمات المرتبطة بالمحبة والتعاطف والعائلة، ولم تعد إلى مستوياتها السابقة حتى اليوم. وفي الوقت ذاته، تراجعت مفردات التقاليد أولًا، قبل أن تعود بقوة لاحقًا، متجاوزة معدلاتها القديمة، وكأن الناس في مواجهة الفقد الجماعي عادوا يبحثون عن الجذور والمعنى الثابت.
تكشف هذه التحولات أن الأزمات الكبرى لا تغيّر حياتنا فحسب، بل تغيّر لغتنا الأخلاقية، وتعيد تعريف ما يعنيه أن تكون الحياة “حياة طيبة”.
كما أظهرت الدراسة فروقًا تعكس تصورات راسخة حول الجنس والعمر. فقد امتلأت مراثي الرجال بمفردات ترتبط بالإنجاز والانضباط والقوة، بينما ركزت مراثي النساء أكثر على الإحسان، والعلاقات، والاستمتاع بجوانب الحياة.
كذلك، كان كبار السن يُذكرون غالبًا بوصفهم حماةً للتقاليد، في حين ارتبط ذكر الشباب بقيم العناية بالجميع البشر والطبيعة وبالاستقلال في التفكير والفعل.
ومن اللافت أن القيم المنسوبة إلى الرجال تغيّرت أكثر مع التقدم في العمر مقارنة بالنساء؛ إذ بدت صورة الرجل في المراثي أقل ثباتًا عبر مراحل الحياة، بينما حافظت صورة المرأة على قدر أكبر من الاستمرارية.
لماذا يهمّ كل هذا؟
لأن المراثي، وهي من أكثر أقسام الصحف والمواقع زيارة، تفتح نافذة نادرة على ما تقدّره المجتمعات فعلًا، لا ما تدّعي تقديره. الناس غالبًا ما يعرفون كيف يريدون أن يُذكروا، لكننا نعرف القليل عن الكيفية التي يُذكرون بها حقًا.
هذه الدراسة، بتحليلها ملايين النصوص، تسد فجوة كبيرة في فهم معنى “الإرث” الإنساني.
وما زال الباب مفتوحًا. فالأبحاث القادمة قد تتناول الفروق المرتبطة بالعرق أو المهنة، أو تعود أبعد في الزمن عبر أرشيفات الصحف القديمة. بل قد تسأل سؤالًا أكثر طموحًا: هل يمكن لتذكير الناس بأن الطيبة هي أكثر ما يبقى في الذاكرة، أن يدفعهم ليكونوا أكثر عطفًا في حياتهم اليومية؟
فمعرفة ما يبقى بعد الرحيل، تساعدنا على فهم ما نعدّه جديرًا بأن نعيشه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى