قصة “تطبيق فاقد الأب”

قصة “تطبيق فاقد الأب”
مصر: إيهاب محمد زايد
حي طرة، حيث تدور أحداث القصة، هو حي شعبي يقع على أطراف القاهرة. يتميز بطبيعته المزدوجة: من ناحية، هناك المناطق السكنية المكتظة بالسكان، حيث تنتشر المباني المتلاصقة والأزقة الضيقة. ومن ناحية أخرى، هناك المناطق القريبة من النيل، حيث يمكن رؤية المياه الزرقاء تتدفق بهدوء، محاطة بأشجار النخيل والحقول الخضراء.
تاريخيًّا، يعود اسم “طرة” إلى العصور الفرعونية، حيث كانت المنطقة تُعرف باسم “تارو”، وكانت مركزًا لصناعة الفخار. ومع مرور الزمن، تحولت إلى منطقة سكنية تعج بالحياة، لكنها تحتفظ بلمحات من تاريخها العريق.
في حي طرة، جنوب القاهرة، حيث تلتقي رمال الصحراء بضفاف النيل الخضراء، كان يعيش فتى اسمه يوسف الصديق. كان يوسف أسمر البشرة، ذو جسم رياضي متناسق، يحمل في عينيه نظرة حزن عميق، كأنها بحر من الأسى يحتاج إلى من يطمئنه ويهدهد أحلامه. كان شهمًا، قويًّا في مظهره، لكنه هشٌّ في داخله، كأنه زجاجة تحمل رسالة حزن طواها الزمن في أعماقها. عندما تراه، تشعر أنه يحتاج إلى طبطبة، إلى كلمة حنونة، إلى من يسمعه ويحتويه.
كان يوسف في الرابعة عشرة من عمره عندما فقد والده فجأة بسبب مرض مفاجئ لم يمهله طويلًا. كان الأب، علي، عماد الأسرة، الرجل الذي كان يعمل كسائق تاكسي لساعات طويلة لتأمين لقمة العيش لأسرته المكونة من زوجته فاطمة وثلاثة أطفال: يوسف، وشقيقته الصغرى مريم، وشقيقه الأصغر خالد.
كان فقد الأب صدمة كبيرة ليوسف. فجأة، وجد نفسه في مواجهة عالم بارد لا يرحم. لم يكن يعرف كيف يتعامل مع هذا الفراغ الهائل الذي تركه والده. كان يشعر بالغضب أحيانًا، وبالحزن العميق أحيانًا أخرى، وبالخوف من المستقبل في أغلب الأوقات. لكن ما لاحظه يوسف أكثر من أي شيء آخر هو كيف تغيرت حياة أمه.
فاطمة، المرأة القوية التي كانت تعمل كمدرسة في مدرسة ابتدائية محلية، وجدت نفسها فجأة مسؤولة عن كل شيء. كانت صبوحة الوجه، تحمل في ملامحها جمالًا بسيطًا ينم عن قوة داخلية هائلة. كانت تستيقظ قبل الفجر لتحضر الفطور للأطفال، ثم تذهب إلى عملها، وتعود في المساء منهكة لكنها لا تسمح لنفسها بالراحة. كانت تقوم بالأعمال المنزلية، وتساعد الأطفال في واجباتهم المدرسية، وتحاول أن تكون الأم والأب في آن واحد.
كان يوسف يراقبها في صمت. كان يرى كيف تتكسر عيناها بين الحين والآخر، لكنها تمسح دموعها بسرعة وتواصل عملها. كان يشعر بالذنب لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا لتخفيف عبئها. كان يعرف أن فقد الأب ليس مجرد ألم عاطفي، بل هو تحول جذري في حياة الأسرة بأكملها.
بدأ يوسف يبحث عن معلومات حول الأطفال الذين فقدوا آباءهم. اكتشف أن 15% من الأطفال في مصر يعيشون في أسر فقدت أحد الوالدين، سواء بسبب المرض أو الحوادث أو غيرها من الأسباب. وفي العالم، تشير الإحصائيات إلى أن ملايين الأطفال يفقدون آباءهم كل عام، خاصة في مناطق الحروب والفقر. في بلاد المسلمين، حيث تعاني العديد من الدول من الحروب والنزاعات، تصل نسبة الأطفال الذين فقدوا آباءهم إلى 20% في بعض المناطق.
هذه الأرقام صدمت يوسف. أدرك أنه ليس وحيدًا في معاناته، لكنه تساءل: “لماذا لا أحد يتحدث عن هذا؟ لماذا لا يوجد من يساعدنا؟”
بدأ يوسف يتحدث مع أطفال آخرين في الحي فقدوا آباءهم. كان هناك محمد، الذي فقد والده في حادث سيارة، وكان يعاني من صعوبات في الدراسة بسبب الاكتئاب. وكانت هناك سارة، التي فقدت والدها بسبب المرض، وكانت تشعر بالغضب الدائم من العالم. وكان هناك أحمد، الذي فقد والده في حادث عمل، وكان يحاول أن يكون الرجل الوحيد في البيت رغم صغر سنه.
كانت كل قصة تسمعها يوسف تزيد من إحساسه بالمسؤولية. كان يعرف أن هؤلاء الأطفال يحتاجون إلى من يساعدهم، لكنه لم يكن يعرف كيف.
في أحد الأيام، بينما كان يوسف يجلس على شاطئ النيل، تأمل في المياه التي تتدفق بلا توقف. تساءل: “لماذا لا نستطيع أن نتدفق مثل النيل؟ لماذا نسمح للحزن أن يوقفنا؟” في تلك اللحظة، خطرت له فكرة. قرر أن يستغل شغفه بالتقنية لمساعدة الأطفال الذين فقدوا آباءهم، مثله.
بدأ يوسف يقرأ في علوم النفس، واطلع على نظريات التعامل مع الفقد والحزن. تعلم عن كيفية تحويل الألم إلى طاقة إيجابية، وكيفية بناء المرونة النفسية. ثم اتجه إلى علوم البرمجة، وبدأ في تطوير تطبيق أسماه “فاقد الأب”. كان التطبيق بمثابة صديق افتراضي يقدم نصائح عملية وعاطفية للأطفال الذين فقدوا آباءهم. كان التطبيق يعلمهم كيفية التعامل مع مشاعرهم، ويقدم لهم قصصًا ملهمة لأشخاص تغلبوا على الفقد، ويوجههم إلى طرق لتحقيق أحلامهم رغم الصعوبات.
لم يكن التطبيق مجرد أداة تقنية، بل كان مشروعًا إنسانيًا عميقًا. قام يوسف بتضمين نصائح من علماء النفس، وقصصًا من الأدب العالمي تتحدث عن الفقد والقوة، وحتى تمارين بسيطة لتحسين المزاج. كان التطبيق يعتمد على التفاعل، حيث يمكن للأطفال أن يشاركوا مشاعرهم ويتلقوا ردودًا مخصصة تساعدهم على التغلب على حزنهم.
بعد عامين من العمل الدؤوب، أطلق يوسف التطبيق، وسرعان ما انتشر بين الأطفال في الحي وحتى خارجها. أصبح التطبيق مصدر إلهام للكثيرين، وبدأت قصص النجاح تظهر. طفل كان يعاني من الاكتئاب بدأ يجد طعم الحياة مرة أخرى، وآخر كان يعاني من صعوبات في الدراسة أصبح متفوقًا، وفتاة كانت تشعر بالغضب الدائم بدأت تتعلم كيف تسامح.
في طرة، الحياة بسيطة لكنها مليئة بالتحديات. السكان يعتمدون على الأعمال الصغيرة، مثل الزراعة أو العمل في المصانع القريبة. الأطفال يلعبون في الشوارع الضيقة، لكنهم يحملون أحلامًا كبيرة. كان يوسف واحدًا من هؤلاء الأطفال، لكنه قرر أن يحول أحلامه إلى واقع.
لم يتوقف يوسف عند هذا الحد. بعد عشر سنوات من فقدانه لوالده، أصبح شابًا في الرابعة والعشرين من عمره، ورائدًا مجتمعيًا في مجال التقنية. أسس شركة ناشئة تعمل على تطوير تطبيقات تعليمية ونفسية للأطفال، وأصبحت قصته ملهمة للكثيرين. كان دائمًا ما يقول: “فقد الأب كان بداية معاناتي، لكنه أيضًا كان بداية تحولي إلى شخص أقوى.”
أما أمه، فاطمة، فقد كانت تشاهده بفخر وهي تعلم أن كل التعب الذي تحملته لم يذهب سدى. كانت ترى في عينيه نفس النور الذي كان يشع في عيني زوجها الراحل. كانت تعلم أن يوسف لم يعوض فقط فقد أبيه، بل أصبح سندًا للكثيرين ممن عانوا مثله.
في النهاية، أصبح تطبيق “فاقد الأب” أكثر من مجرد تطبيق؛ كان رمزًا للأمل والقوة. وكان يوسف، الفتى الذي بدأ رحلته من حي طرة، دليلًا على أن الفقد يمكن أن يكون بداية لشيء أكبر، وأن الألم يمكن أن يتحول إلى إنجاز إذا ما وُجه بالعزيمة والإرادة.
وهكذا، أصبحت قصة يوسف قصة أدبية ملهمة، تروي كيف يمكن للإنسان أن يتحول من الضياع إلى القيادة، ومن الحزن إلى الإبداع، ومن الفقد إلى العطاء.