ظلال الكهرمان

ظلال الكهرمان… قصة قصيرة
مصر: إيهاب محمد زايد
حي الشرابية، ذلك الحي العتيق الذي يقع في قلب القاهرة، يحمل بين طياته تاريخًا عريقًا يمتد إلى قرون مضت. تأسس الحي في العصر الفاطمي، وكان يُعرف في البداية كمنطقة سكنية للنخبة من التجار والعلماء. ومع مرور الزمن، تحول إلى حي شعبي يموج بالحياة، حيث تتداخل الأزقة الضيقة مع أصوات الباعة الجائلين، وتتلون الجدران القديمة بألوان الزمن الباهتة. كانت الحياة في الحي تسير بوتيرة بطيئة، كأن الزمن يتنفس بعمق قبل أن يقرر المضي قدمًا. البيوت المتلاصقة، التي تبدو وكأنها تحمل أسرارًا لا تُحصى، كانت تهمس بحكايات العشق والخيبة، والصراعات اليومية التي لا تنتهي.
وفي قلب هذا الحي، حيث تلتقي الروائح العطرة للبهارات مع رائحة الخبز الطازج، ولدت صباح، الفتاة التي كانت تحمل في عينيها جرأة العالم، وفي قلبها أسرارًا لا يعرفها سوى القليلون. كانت صباح، بوجهها الصبوح الذي يشع بالحيوية، وعينيها الجريئتين اللتين تحملان نظرة تحدٍ للعالم، فتاة مختلفة. كانت تبلغ من الطول 160 سم، تحافظ على رشاقتها بأكلها البسيط، الذي يعتمد على الخضروات الطازجة والفواكه الموسمية. كانت تزين وجهها بطرحة صفراء براقة، تشبه لون الكهرمان، تلمع تحت أشعة الشمس، كأنها تاجٌ من نور يعلو رأسها. كانت صباح، بكل تفاصيلها، كأنها لوحة فنية رسمتها أنامل القدر ببراعة.
ولدت صباح في بيت يموج بالحياة والصراعات. كان أبوها، الرجل ذو اللحية الكثة والعينين الحادتين، يحمل بين يديه أربع بنات قبل أن تأتي صباح، خاتمة المطاف. كان أبوها يعمل حلاقًا في محل صغير يطل على الزقاق الرئيسي للحي. كان المحل مكانًا يجتمع فيه الرجال ليتحدثوا عن أخبار الحي والسياسة، بينما كان الأب يقص الشعر بحرفية توارثها عن أجداده. كانت صباح تذهب إليه بكل جرأة، تجلس معه في المحل، وتشاهد يديه وهو يعمل، وكأنها تتعلم منه شيئًا عن الحياة.
لكن القدر كان له رأي آخر. في أحد الأيام، بينما كان الأب يعبر السكة الحديد، قطع القطار قدميه. منذ ذلك اليوم، تغيرت حياة العائلة. أصبحت صباح ترفق به، تقبله، وتحنو عليه، وتسافر معه إلى كل مكان. هذا جعلها منفتحة على الرجال، لكنها كانت تعشق الكلمة الطيبة والنظرة الحانية. كانت صباح تعيش في عالم من التناقضات، حيث الحب والكراهية يتصارعان في قلبها.
تزوجت صباح من شاب بسيط، كان يتحدث بصراحة ولا يخفي شيئًا. كان طموحه الدراسي يلمع في عينيه، ثم تحول ذلك الطموح إلى حلم مالي كبير. أحبته صباح، وكأنها وجدت في طموحه ما يعوضها عن كرهها للعالم الذكوري. لكن الزمن لم يكن رحيمًا، فمرض زوجها بالقلب، وأصبحت صباح تبحث عن الكلمة الحلوة، اللمسة الحانية، الشخص الذي يحتويها.
وهنا ظهر محمد، الرجل الكبير في السن، الذي بدأ يظهر في حياتها. كان محمد يحمل في عينيه نظرة مراهقة، كأنه يعيش في عالم من الخيال، بعيدًا عن واقع الحياة القاسي. كان يرتدي دائمًا بدلة أنيقة، تلمع تحت أضواء المكتب، وكانت عيناه تلمعان بالرغبة عندما ينظر إليها، كأنه يرى في صباح ما لم يره في أي امرأة أخرى.
بدأت صباح تشعر بالتقارب من محمد، الذي كان يعمل معها في كلية الزراعة، القريبة من حي الشرابية. كانت الكلية، بحدائقها الخضراء الواسعة، ومبانيها القديمة التي تحمل في جدرانها قصصًا لا تُحصى، مكانًا يموج بالحياة والطموحات. كانت صباح تتنقل بين المكاتب، حاملة معها أوراقها وأحلامها، بينما كان محمد يراقبها من بعيد، كأنه ينتظر اللحظة المناسبة للاقتراب منها.
وفي أحد الأيام، عندما كانت صباح تجلس في مكتبها، تدق على لوحة المفاتيح بسرعة، دخل محمد، حاملًا معه كوبًا من القهوة. نظر إليها بابتسامة خفيفة، ثم قال: “صباح، ألا تحتاجين إلى استراحة؟” نظرت إليه، وكأنها تبحث في عينيه عن شيء ما، ثم ابتسمت وقالت: “ربما أنت محق.”
بدأت المحادثات بينهما تزداد عمقًا، وكأنهما يعيشان في عالم من الخيال، بعيدًا عن واقع الحياة القاسي. كانت صباح تشعر بالراحة عندما تتحدث معه، وكأنه الشخص الوحيد الذي يفهمها. وفي أحد الأيام، عندما كانا يجلسان في حديقة الكلية، تحت ظل شجرة كبيرة، بدأ محمد يتحدث عن الخيانات الزوجية، وكيف أن الوجود في مكتب واحد يمكن أن يغير حياة الناس. قال: “صباح، أتعلمين أن نسبة الخيانات الجنسية في العمل تصل إلى 30%؟” نظرت إليه، وكأنها تبحث في عينيه عن شيء ما، ثم قالت: “ربما أنت محق.”
بدأت صباح تشعر بالتقارب من محمد، الذي كان يعمل معها. كان متزوجًا، مثله مثلها، لكن الكلمات الحلوة والاهتمام الذي كانت تفتقده في بيتها جعلها تقترب منه أكثر. وقعا في الحب المحرم، حبٌّ كان يعرف كل منهما أنه خطيئة، لكنهما لم يستطيعا مقاومة تلك الشرارة التي اشتعلت بينهما.
لكن القصة لم تنتهِ هنا. فبينما كانت صباح تعيش في دوامة من المشاعر مع محمد، ظهر زميل آخر في حياتها، وهو أشرف. كان أشرف رجلًا هادئًا، يتحدث بصراحة عن مشاكل بيته وأولاده. كانت صباح تستمع إليه باهتمام، وكأنها تبحث في كلماته عن شيء مفقود في حياتها. بدأت تشعر بالحب تجاهه، وبدأت تتدلل عليه، وكأنها تريد أن تعوضه عن كل ما فقده في حياته.
بدأ الصراع في قلب صباح بين محمد وأشرف. كانت تعيش في عالم من التناقضات، حيث الحب والكراهية يتصارعان في قلبها. كانت تعرف أن الحب الذي نشأ بينها وبين زميلها كان محرمًا، لكنها أيضًا كانت تعرف أن الحياة في حي الشرابية، بكل تفاصيلها المعقدة، قد تكون قاسية أحيانًا، لكنها تبقى مليئة بالقصص التي تستحق أن تُروى.
قرر محمد أن يذهب إلى زوج صباح ويحذره، لكنه لم يفهم التلميحات. بينما صباح، التي بدأت تشعر بالذنب، قررت أن تضع حدًا لهذا الحب. لبست دبلة الزوجية، وقدمت طلب نقل من العمل. لكن زميلها، الذي كان يعرف ما يدور في قلبها، قال لها: “لا تنتقلي.”
ضحكت صباح كثيرًا، ضحكة كانت تحمل في طياتها الكثير من الألم والسخرية. كانت تعرف أنه يرتاح معها بالكلام، وأن صداقتهما تحولت إلى شيء أكبر. قالت له: “أعرف أنك تعزني.” ثم بدأت تحكي له عن إحصائيات الخيانات الزوجية، وكيف أن الوجود في مكتب واحد يمكن أن يغير حياة الناس.
في النهاية، قررت صباح أن تكتب خطاب النقل، وقدمته بيد مرتعشة. ضحكت مرة أخرى، ضحكة كانت تحمل في طياتها كل المشاعر المتناقضة التي عاشتها. كانت تعرف أن الحب الذي نشأ بينها وبين زميلها كان محرمًا، لكنها أيضًا كانت تعرف أن الحياة في حي الشرابية، بكل تفاصيلها المعقدة، قد تكون قاسية أحيانًا، لكنها تبقى مليئة بالقصص التي تستحق أن تُروى.
وهكذا، في حي الشرابية، حيث تتداخل الأزقة الضيقة مع أصوات الباعة الجائلين، وتتلون الجدران القديمة بألوان الزمن الباهتة، بقيت قصة صباح شاهدة على أن الحب، حتى وإن كان محرمًا، يمكن أن يغير حياة الناس، ويجعلهم يعيدون النظر في كل ما اعتقدوا أنه صحيح.