ما بعد الرساله هل يسمع البيت الأبيض ما لا يُقال؟

بقلم
شحاته زكرياء
من بغداد خرجت الكلمات ثقيلة. لم تكن مجرد رسالة عابرة في قمة عربية جديدة بل كانت لحظة كشف ومكاشفة نادرة حين وقف الرئيس عبدالفتاح السيسي يضع إصبعه على الجرح الغائر في قلب الشرق الأوسط: فلسطين.
لم يخاطب العرب وحدهم ولا العالم بصيغة الدبلوماسية المعهودة بل وجه كلماته مباشرة إلى البيت الأبيض بشجاعة من يعرف أن اللغة الصريحة ، في لحظة الاشتعال قد تكون أكثر فاعلية من المجاملات اللينة.
قالها السيسي بوضوح: لا سلام مع إسرائيل ولو طبّع معها كل العرب ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية. أشار إلى ما لم يعد الكثيرون يشيرون إليه: حدود ٤ يونيو ١٩٦٧، القدس الشرقية، الدولة المستقلة، العدالة التي تأخرت قرناً كاملا.
في زمن الاتفاقيات “الإبراهيمية”، حيث توقع الوثائق تحت أضواء كاميرات المصالح وتُغفل تماما جذور النزاع ، جاء صوت القاهرة مغايرا لا يطلب وقف إطلاق نار مؤقت ، بل تسوية نهائية لا يريد تهدئة هشّة بل سلاما عادلا لا يرى التطبيع بديلا للحل بل دليلا.على غيابه.
لم تكن الكلمات فقط عن غزة المحترقة.رغم أن النار وحدها تكفي. كانت عن منطق أخلاقي وقانوني يجب أن يحكم العالم: لا يمكن أن نتحدث عن سلام بينما يُباد شعب وتُسوى مدينة بالأرض وتُقصف المستشفيات والمدارس.وتُستهدف النساء والأطفال كأنهم أهداف عسكرية.
ربما كانت الرسالة الأكثر عمقا في خطاب الرئيس.ليست تلك التي نطقها بل تلك التي تركها معلّقة: أن الولايات المتحدة بكل ثقلها يمكن أن تفعل الكثير ، لكنها تختار ألا تفعل. أن القوة ليست غطاء للعمى وأن الدعم الأعمى لإسرائيل لن يصنع استقرارا بل يكرّس دورة دماء بلا نهاية.
هنا القاهرة لا تنفصل عن الواقع. تعلم موازين القوى وتُدرك معادلات المصالح. لكنها تقول للعالم بلغة لا يجيدها كثيرون: إن غياب الحل لا يعني أن الشعوب نسيت وإن صمت بعض العواصم لا يلغي صراخ الضحايا.
ليست هذه أول مرة تصدر فيها مصر موقفا واضحا لكنها هذه المرة تتحدث من فوق منصة عربية ، وفي زمن عربي مأزوم وحرب مكشوفة في غزة ومحاولات حثيثة لتجاوز التاريخ بالقفز على الحقيقة.
السؤال الآن ليس: هل وصلت الرسالة؟ بل: هل يريد أحد في واشنطن أن يسمع؟
وهل يفهم الرئيس الأمريكي أن الرسائل الأصدق ليست ما يُقال له.بل ما يُقال أمامه؟
وما لم يُقَل في خطاب السيسي ، كان أبلغ: أن التطبيع بلا عدالة لا يساوي السلام وأن صفقات القرن تُولد ميتة إذا تجاهلت الكرامة وأن إسرائيل.وهي تنتشي بالقوة قد تكون تزرع انهيارها بأيديها.
في كل مفصل تاريخي كانت هناك لحظة اختبار أخلاقي.
ربما كانت بغداد في هذا الأسبوع من مايو واحدة من تلك اللحظات.
فهل سيفهم العالم الرسالة؟ أم ينتظر أن تُكتَب بالدم أكثر؟



