لماذا أيها العالم ؟ حديث مع الفطرة يكتبها عبد الفتاح موسي

كنت جالس مع ابنتي ، جلسة حوارية هادئة كالتي نعيشها كثيرًا دون أن نتوقع أنها قد تحمل ما يهزّ أعماقنا. كانت تنظر إلي بعينيها البريئتين، تلك العيون التي لم تعبث بها الدنيا بعد، ولم تلوثها الحسابات ولا الأرقام.
قالت لي فجأة:
“أبي، هل صحيح أن لاعب الكرة الفلاني يربح أموالًا كثيرة جدًا؟”
أجبتها بابتسامة: “نعم، هذا حقيقي.”
سألتني مجددًا: “والمطرب الفلاني أيضًا؟ هل كل ما يُقال عن ثروته وأملاكه صحيح؟”
فقلت: “نعم يا صغيرتي، ما يُقال غالبًا ليس مبالغة.”
ثم جاءت الضربة…
“أبي، كيف؟! كيف يحصل هؤلاء على كل هذا؟”
قلت لها: “لأنهم تعبوا، وتمرنوا، وبذلوا جهدًا كبيرًا ليصلوا إلى هذا النجاح.”
ظننت أنني أقنعتها، لكنها نظرت إليّ بهدوء غريب وقالت:
“أنا لا أقصدهم كأشخاص، بل أقصد الفكرة نفسها، تخيل يا أبي… لو أن العالم كله قرر فجأة أن يمنع لعب كرة القدم، هل سيحدث شيء؟”
وقبل أن أجيب، قالت بثقة:
“لن يتغير شئ مهم، بل ربما سيكون العالم أفضل بكثير..”
ثم أكملت وهي تزداد تأثرا”
“لكن تخيل إذا توقف الأطباء أو المهندسين فجأة عن العمل! تخيل أن العلماء والمعلمين انسحبوا بصمت! سيحدث ذلك خللا” كبيرا” ،كارثة ،قد ينهار كل شيء… ربما حتى الحياة نفسها!”
سكتُّ. فأنا لم أجد ردًا فوريًا. كنت أنظر إليها وكأنني أرى الفطرة تتكلم.
هذه الكلمات لم تخرج من فم فيلسوف، ولا من كتاب تنمية بشرية… خرجت من قلب طفل لم يُساوم بعد على فطرته، ولم يرضَ بعد بمعادلات الدنيا المختلّة، حيث تُسَعر الشهرة أكثر من العِلم، ويُحتفى بالضجيج أكثر من القيمة.
ابنتي لم تنتقد أحدًا، لكنها كشفت لي، بكلماتها البريئة، خللًا قديمًا في ميزان العالم.
منذ متى بدأنا نمنح المجد لمن يُمتعون، لا لمن يُنقذون؟
منذ متى أصبح الترفيه أكثر قيمة من الحياة نفسها؟
هي لم تكن محبطة… بل كانت صادقة.
ذلك الصدق الذي يُشبه همس الروح حين تشتاق للعدل.
أي موازين هذه التي جعلت الصورة أبهى من الفكرة، والرقص أعلى من الرسالة؟
أيعقل أن نُربي أبناءنا على أن الجهد الحقيقي لا يُكافَأ، وأن الأضواء لا تبحث إلا عن من يلهو تحتها؟
لماذا أيها العالم؟!!!