منوعات

رجم القلوب .. عمل أدبي

رجم القلوب .. عمل أدبي
قصة قصيرة

مصر: إيهاب محمد زايد
في قلب دلتا النيل، حيث ينساب فرع دمياط ببطءٍ يحمل في طياته قصصًا لا تُحصى، تقع زفتى، تلك المدينة التي تُخفي بين جنباتها أسرارًا وأحلامًا وشجونًا. هنا، حيث تُلامس الأرض السماء بخُضرة الحقول وزرقة النيل، وُلد شابٌ اسمه “عنتر القمحاوي”. كان عنتر القمحاوي ابنًا لتلك الأرض الطيبة، التي شهدت تاريخًا عريقًا من النضال والكبرياء، منذ أيام جمهورية زفتى التي أعلنها أجداده في وجه الاحتلال البريطاني.

كان عنتر القمحاوي شابًا هادئًا، ذو عينين عميقتين تحملان نظراتٍ غامضة، كأنهما تعرفان سرًا لا يُفصح عنه. كان يمشي على ضفاف النيل في المساء، حيث يلتقي الهواء العليل برائحة الأرض الرطبة، ويستمع إلى حفيف الأشجار التي تُحدثه عن أيامٍ مضت. كان يحب أن يجلس قرب “الكوبري الفرنساوي”، ذلك الجسر الذي شهد معارك أجداده، ويتأمل المياه التي تنساب تحته، كأنها تحمل معها ذكريات أولئك الذين وقفوا هنا ذات يومٍ يدافعون عن حريتهم.

لكن عنتر القمحاوي لم يكن يعيش في الماضي فقط، بل كان يحمل في قلبه حلمًا غامضًا، حلمًا لم يستطع أن يُعبّر عنه حتى لأقرب الناس إليه. كان يشعر بأن هناك شيئًا ما يناديه من بعيد، شيءٌ لا يستطيع أن يحدده، لكنه يعلم أنه أكبر من زفتى، أكبر من النيل نفسه. كان هذا الشعور يطارده في أحلامه، حيث يرى نفسه يسير في طرقاتٍ غير معروفة، ويسمع أصواتًا تهمس له بكلماتٍ لا يفهمها.

في أحد الأيام، بينما كان عنتر القمحاوي يجلس في “مسجد العوام”، ذلك المسجد العتيق الذي يُقال إن الصحابي الزبير بن العوام بناه، شعر بغصةٍ في قلبه. نظر إلى القباب العالية، وإلى النقوش التي تحكي عن تاريخٍ عريق، وتساءل في نفسه: “هل أنا مجرد جزء من هذا التاريخ، أم أن لي قصتي الخاصة التي يجب أن أكتبها؟”. كانت تلك اللحظة بمثابة نقطة تحول في حياة عنتر القمحاوي، حيث قرر أن يبحث عن ذلك الصوت الغامض الذي يناديه.

بدأ عنتر القمحاوي رحلته بالخروج من زفتى، متجهًا إلى القاهرة، المدينة التي تُخفي في زحامها آلاف القصص. هناك، في شوارع العاصمة الصاخبة، بدأ يكتشف جوانب جديدة من نفسه. قابل أناسًا من خلفيات مختلفة، واستمع إلى قصصهم، وتعلم أن الأحلام ليست دائمًا واضحة، وأن البحث عن الذات قد يكون رحلةً طويلةً ومليئة بالتحديات.

لكن، مهما ابتعد عنتر القمحاوي عن زفتى، ظلت المدينة تلاحقه في أحلامه. كان يرى نفسه دائمًا يعود إلى ضفاف النيل، إلى ذلك الجسر العتيق، وإلى المسجد الذي شهد لحظاتٍ من التأمل والبحث. أدرك عنتر القمحاوي أن زفتى ليست مجرد مكانٍ وُلد فيه، بل هي جزءٌ من هويته، من قصته التي يحاول أن يكتبها.

عاد عنتر القمحاوي إلى زفتى، ليس كالشاب الحالم الذي كان، بل كرجلٍ يعرف أن الأحلام قد تكون غامضة، لكنها دائمًا ما تقودنا إلى حيث ننتمي. جلس مرة أخرى على ضفاف النيل، وأغمض عينيه، واستمع إلى صوت المياه التي تُحدثه عن ماضيه وحاضره ومستقبله. وعندها فقط، أدرك أن الصوت الذي كان يناديه لم يكن صوتًا من الخارج، بل كان صوت قلبه الذي يُخبره بأن الحلم الحقيقي هو أن يعيش قصته بكل ما تحمله من غموض وجمال. وهكذا، أصبح عنتر القمحاوي جزءًا من تاريخ زفتى، ليس كبطلٍ يُحكى عنه، بل كشخصٍ عاديٍّ وجد نفسه في أحضان تلك المدينة التي تُخفي في طياتها أسرارًا لا تُحصى.
ويتئمله العديد من الساعات ثم يردد الله
جلس عنتر القمحاوي على ضفة فرع دمياط، حيث تلامس مياه النيل الهادئة حافة الأرض الخصبة، وتنعكس أشعة الشمس الذهبية على سطح الماء كأنها تنسج خيوطًا من نور. كان عنتر شابًا في العشرينيات من عمره، لكن روحه كانت تحمل نضجًا يفوق سنه. كان يرتدي جلبابًا أبيض بسيطًا، ويجلس متربعًا على حصيرة من القش، بينما تنساب الرياح العليلة بين أشجار النخيل التي تحيط به. في يده، مسبحة خشبية يحركها ببطء، وكلماته تنساب مع تيار النيل، كأنها جزء من ذلك المشهد الساحر.

كان عنتر يردد بصوت خافت، لكنه عميق، كلمات رابعة العدوية، تلك الصوفية التي عرفت بحبها العظيم لله:

“إلهي.. أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي..
أعطني محبتك، وحب من يحبك، وحب كل شيء يقربني إليك.”

كانت كلماتها تلامس قلبه، وكأنها تعبر عن كل ما بداخله من شوقٍ وغموض. تذكر عنتر أيامه في الثانوية العامة، حين كان يجلس في غرفته الصغيرة، ينظر إلى لوحة معلقة على الحائط مكتوب عليها لفظ الجلالة “الله” بخطٍ عربي جميل. كان يقضي الساعات الطوال يتأمل تلك الكلمة، وكأنها بوابة إلى عالمٍ آخر، عالمٍ من السكينة والصفاء. كان يشعر بأن كل حرف في لفظ الجلالة يحمل معنىً عميقًا، وكأنه يخفي في طياته أسرارًا لا تُفهم إلا بالقلب.

كان يردد: “الله.. الله.. الله..”
بصوتٍ خفيض، وكأنه يستحضر حضورًا مقدسًا. كانت تلك الكلمة تكفي لتملأ قلبه بالطمأنينة، ولتذكره بأن كل شيء في هذا الكون مرتبطٌ بذلك الاسم العظيم.

تذكر عنتر كيف كان يجد في تلك اللحظات من التأمل هروبًا من ضغوط الحياة، من هموم الدراسة، ومن تساؤلاته الكثيرة عن المستقبل. كان يشعر بأن لفظ الجلالة هو ملجأه الوحيد، وأنه كلما ترددت على لسانه، كلما اقترب من فهم شيءٍ ما، شيءٍ غامضٍ وجميلٍ في نفس الوقت.

والآن، وهو جالسٌ على ضفة النيل، يعيد عنتر ترديد تلك الكلمة المقدسة:
“الله.. الله.. الله..”
كان يشعر بأن النيل يردد معه، وأن الأشجار والطيور والسماء كلها تشاركه في ذلك الذكر. كان قلبه يمتلئ بالشكر، لأنه وجد في هذا الاسم العظيم كل ما يحتاجه من قوةٍ وسكينة.

ثم توقف عنتر للحظة، وأغمض عينيه، واستمع إلى صوت المياه التي تنساب ببطء. شعر وكأن الكون كله يتنفس معه، وكأن كل شيءٍ حوله يردد:
“الله.. الله.. الله..”

في تلك اللحظة، أدرك عنتر أن الحب الحقيقي، ذلك الحب الذي كانت تتحدث عنه رابعة العدوية، ليس مجرد شعورٍ عابر، بل هو حالةٌ من الوجود، حالةٌ من الاتصال بالذات الإلهية التي تسكن في كل شيء. أدرك أن حياته كلها، منذ أيام الثانوية العامة وحتى هذه اللحظة، كانت رحلةً بحثٍ عن ذلك الحب، عن ذلك الوجود الذي لا يزول.

فتح عنتر عينيه، ونظر إلى النيل الذي يستمر في جريانه الأبدي، وهمس:
“إلهي.. أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي..”
ثم أضاف:
“الله.. الله.. الله..”
وكأنه يختم رحلته الروحية بتلك الكلمة التي تحمل كل المعاني، وكل الأسرار.

لكن عنتر، برغم تأثره العميق برابعة العدوية وحكاياتها الصوفية التي تلامس الروح، وبرغم قراءاته عن نضال عائلة الجندي وتضحياتهم من أجل زفتى، كان يحمل في داخله تناقضًا غريبًا. كان واضحًا بين الناس، مبتسمًا دائمًا، كأنه شمس تشرق على وجوه من حوله. كان يساعد الجميع بكل ما يفيض من قلبه الكبير، يجمع النقود القليلة التي يمتلكها ويعطيها لمن يحتاج، وكأنه يعتقد أن السعادة الحقيقية تكمن في العطاء، لا في الامتلاك.

لكن في أعماقه، كان عنتر يعيش في صراعٍ خفي. كان يشعر وكأنه يقف على حافة جبل شاهق، شامخ، يطل على عالمٍ واسعٍ من الأحلام، لكنه في نفس الوقت يرى نفسه محاصرًا بلعنة الخوف. خوفٌ من الفشل، خوفٌ من المجهول، خوفٌ من أن يكون حلمه مجرد سرابٍ يتبدد عند الاقتراب منه. كان يرى أن نصيبه من الخوف أكبر من نصيبه من المال، وأن أحلامه الكبيرة تتفوق على ما يملكه من إمكانيات لتحقيقها.

كان عنتر يردد في نفسه:
“نصيبي من الأماني أكبر من نصيبي من الحب..”
فقد كان يحلم بحياةٍ مختلفة، بحبٍ يملأ قلبه، بتحقيق ذاته، لكنه كان يشعر بأنه يعيش في دائرة من التردد، وكأنه لا يستطيع أن يخطو الخطوة الأولى نحو تحقيق أحلامه. كان يرى أن الحلم المتردد لا يكون له ديك يصيح، لا يكون له صوتٌ يعلن عن وجوده، ولا قوةٌ تدفعه للأمام.

في ليالي الصيف الحارة، كان عنتر يجلس على سطح منزله الصغير في زفتى، ينظر إلى النجوم المتلألئة في السماء، ويتساءل:
“لماذا أشعر بأنني عالق بين السماء والأرض؟ بين الجبل الشامخ والوادي المنخفض؟”
كان يشعر بأنه يحمل في قلبه جبلًا من الأحلام، لكنه في نفس الوقت يرى نفسه عاجزًا عن تسلقه. كان يخاف من السقوط، من الفشل، من أن يخيب ظن من حوله.

لكن في أحد الأيام، بينما كان عنتر يسير على ضفة النيل، توقف عند شجرة نخيل عتيقة، ورأى عشًا صغيرًا للطيور على أحد أغصانها. لاحظ كيف أن الطيور الصغيرة كانت تتدرب على الطيران، تسقط أحيانًا، لكنها تعود لتجرب مرة أخرى دون خوف. نظر عنتر إلى تلك الطيور، وهمس في نفسه:
“ربما الخوف ليس سوى وهم.. ربما السقوط ليس نهاية الطريق..”

في تلك اللحظة، قرر عنتر أن يواجه خوفه. قرر أن يحول أحلامه المترددة إلى خطواتٍ فعلية. بدأ بكتابة قصائده التي كان يخبئها في دفترٍ قديم، وشاركها مع أصدقائه. ثم بدأ في تنظيم لقاءاتٍ صغيرة في زفتى، يتحدث فيها عن تاريخ المدينة، عن نضال أجداده، وعن أهمية الحلم والعمل.

كان عنتر لا يزال يشعر بالخوف أحيانًا، لكنه تعلم أن الخوف جزءٌ من الرحلة. تعلم أن الجبل الشامخ لا يمكن تسلقه إلا بخطوةٍ واحدة في كل مرة. وأدرك أن الحلم، حتى لو كان مترددًا، يمكن أن يصبح حقيقة إذا ما وجد من يصيح به، من يعلن عنه، من يؤمن به.

وهكذا، أصبح عنتر ذلك الديك الذي يصيح بأحلامه، ليس فقط لنفسه، بل لكل من حوله. أصبح رمزًا للأمل في زفتى، ذلك الشاب الذي يحمل في قلبه جبلًا من الأحلام، ويعلم أن الطريق إلى القمة يبدأ بخطوةٍ واحدة، وخطوةٍ أخرى، حتى يصل إلى حيث يريد.
سافر عنتر القمحاوي عبر ذكريات طفولته، حيث كانت زفتى مسرحًا لأحلامه الأولى وأمنياته البريئة. كان عنتر يعيش في حي بسيط، بين البيوت الطينية والأزقة الضيقة التي تشبه متاهة من الذكريات. لكن قلبه كان دائمًا يتوق إلى شيءٍ أكبر، شيءٍ يقع خارج حدود مدينته الصغيرة. وكانت إحدى تلك الأحلام التي تسكنه هي زيارة بلدة سنبو الكبرى، مسقط رأس العالمة المصرية العظيمة سميرة موسى.

كان عنتر يسمع عن سميرة موسى منذ أن كان طفلًا صغيرًا. كانت جدته تحكي له قصصًا عن تلك الفتاة التي ولدت في قرية قريبة من زفتى، ووصلت بعلمها إلى العالم كله. كانت سميرة موسى، أول عالمة ذرة مصرية، مصدر إلهام لعنتر. كان يتخيلها وهي تجري تجاربها العلمية، وتكافح من أجل تحقيق حلمها في استخدام العلم لخدمة الإنسانية. كانت سميرة بالنسبة إليه ليست مجرد عالمة، بل كانت رمزًا للعزيمة والإصرار، وكانت المرأة الثانية التي يحبها بعد رابعة العدوية.

في طفولته، كان عنتر يتمنى أن يزور بلدة سنبو الكبرى، وأن يلمس جدران بيت أبيها. كان يتخيل نفسه واقفًا أمام ذلك المنزل المتواضع، الذي خرجت منه عقليةٌ علميةٌ غيرت العالم. كان يحلم بأن يضع يده على الحجارة القديمة، وكأنه بذلك يستطيع أن يستمد شيئًا من قوتها وإرادتها. كان يقول لنفسه:
“لو أن سميرة موسى استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه من هنا، فلماذا لا أستطيع أنا أيضًا؟”

في أحد الأيام، قرر عنتر أن يحقق حلم طفولته. ركب دراجته القديمة، وانطلق في رحلةٍ قصيرة من زفتى إلى سنبو الكبرى. كانت الرحلة مليئة بالمشاهد الخلابة: الحقول الخضراء الممتدة، والمزارعين الذين يعملون تحت أشعة الشمس، والنيل الذي يرافق الطريق كصديقٍ وفٍ. وعندما وصل إلى سنبو، شعر وكأنه دخل إلى عالمٍ آخر، عالمٌ يحمل في طياته تاريخًا عظيمًا.

وقف عنتر أمام بيت سميرة موسى، ذلك البيت الذي كان يبدو بسيطًا جدًا، لكنه كان يحمل في داخله قصةً عظيمة. وضع يده على الجدار، وأغمض عينيه، وكأنه يستحضر روح تلك العالمة التي كانت تحلم بمستقبل أفضل للبشرية. شعر بأنه يستمد منها القوة، وكأنها تهمس في أذنه:
“لا تدع الخوف يوقفك.. الحلم يبدأ بخطوةٍ واحدة.”

في تلك اللحظة، أدرك عنتر أن سميرة موسى لم تكن مجرد عالمة، بل كانت رمزًا لكل من يحلم ويجتهد من أجل تحقيق أحلامه. كانت تحمل في قلبها حبًا للعلم والمعرفة، لكنها أيضًا كانت تحمل حبًا لوطنها وللإنسانية. وكان عنتر يشعر بأنه يحبها، ليس كحبٍ عادي، بل كحبٍ روحيٍّ، كحبٍ لمن ألهمه أن يحلم ويحقق.

عاد عنتر إلى زفتى في ذلك المساء، وهو يحمل في قلبه شيئًا جديدًا. كان يشعر بأنه قد لامس جزءًا من حلمه، وأنه قد اقترب خطوةً أخرى من تحقيق أحلامه الكبيرة. وكان يعلم أن سميرة موسى ستظل دائمًا معه، كشعلةٍ من نورٍ تهديه في طريقه.

وهكذا، أصبحت سميرة موسى، تلك العالمة العظيمة، جزءًا من قصة عنتر القمحاوي، جزءًا من رحلته التي بدأت بطفولةٍ مليئة بالأحلام، وستستمر نحو مستقبلٍ يحمل في طياته أملًا جديدًا.
شكلت رابعة العدوية وسميرة موسى عالم عنتر القمحاوي الروحي والفكري، فجعلتاه شخصًا مميزًا، يحمل في قلبه إيمانًا عميقًا بالله، وفي عقله شغفًا لا ينتهي بالعلم. لم يكن عنتر يبحث عن فردوس الحياة الدنيا، بل كان يؤمن بأن الفردوس الحقيقي هو ذلك الذي ينتظره عند الله، حيث السكينة والخلود. وكان يعتقد أن الحياة على الأرض، بكل ما فيها من طينٍ وتراب، هي مجرد رحلةٍ مؤقتة نحو ذلك الفردوس الأبدي.

أما سميرة موسى، فقد كانت بالنسبة إليه لحمًا وعظام العلم، تجسيدًا حيًا لكيفية تحويل المعرفة إلى قوةٍ تغير العالم. كانت رمزًا للعقل الذي لا يهدأ، وللروح التي لا تستسلم للظروف. لم يسعَ عنتر للسفر إلى الخارج بحثًا عن المجد أو الشهرة، بل تمسك ببلده، مصر، مؤمنًا بأن الأرض التي أنجبت سميرة موسى قادرة على أن تنجب المزيد من العباقرة والعلماء. كان يرى في مصر وطنًا يستحق أن يُبنى، وأن يُخدم، وأن يُضحى من أجله.

ووسط كل هذا، اكتفى عنتر من كل النساء بـرابعة العدوية وسميرة موسى. كانت رابعة تمثل له الحب الإلهي، ذلك الحب الذي يتجاوز كل العلاقات الأرضية، والذي يجعل القلب يذوب في شوقٍ إلى الخالق. كانت رابعة، بصوفيتها وحكمتها، تذكره دائمًا بأن الحياة ليست إلا رحلةً روحيةً نحو الله. أما سميرة موسى، فكانت تمثل له الحب العملي، حب العلم والمعرفة، حب الإنسانية والوطن. كانت سميرة تذكره بأن العقل هو أداة الإنسان لتغيير العالم، وأن العلم هو طريق الخلود.

كان عنتر يعيش في تناغمٍ بين هذين الحبين: حب الله وحب العلم. كان يرى أن الإيمان والعلم ليسا متناقضين، بل هما جناحان يحلق بهما الإنسان نحو الحقيقة. وكان يؤمن بأن رابعة العدوية وسميرة موسى، رغم الفارق الزمني بينهما، يجسدان معًا رسالةً واحدة: أن الحياة لها معنى أعمق من الماديات، وأن الإنسان قادر على أن يترك أثرًا خالدًا إذا ما آمن بربه ووظف علمه في خدمة البشرية.

في ليالي الصيف الهادئة، كان عنتر يجلس على ضفة النيل، ينظر إلى النجوم، ويردد في نفسه:
“رابعة علمتني أن أحب الله، وسميرة علمتني أن أحب العلم.. فكيف لي أن أضيع حياتي في البحث عن فردوسٍ زائل، وأنا أعلم أن الفردوس الحقيقي عند الله؟”

وهكذا، عاش عنتر القمحاوي حياةً بسيطةً لكنها عميقة، مقتنعًا بأنه قد وجد في رابعة العدوية وسميرة موسى كل ما يحتاجه من إلهامٍ وحكمة. كان يعلم أن طريقه لن يكون سهلاً، لكنه كان يؤمن بأن كل خطوةٍ يخطوها في سبيل الله والعلم تقربه أكثر من ذلك الفردوس الذي ينتظره عند خالقه.

في ذلك الصباح الباكر، بينما كانت الشمس تشرق بلونها الذهبي الدافئ على سماء زفتى، نادت أم عنتر عليه بصوتٍ يحمل في طياته قلقًا وحنوًا في آنٍ واحد. كانت أمه، المرأة البسيطة التي عاشت حياتها كلها بين جدران بيتها الصغير، تحمل في قلبها رغبةً واحدة: أن ترى ابنها مستقرًا، متزوجًا، يحمل بين يديه طفلًا يملأ البيت ضحكًا وحيوية.

“عنتر.. أنت أصبحت شجرة، ويجب أن تخرج ثمارًا.. لماذا لا تعبأ بالنساء؟ لماذا ترعد منهن؟ أريدك زوجًا لفتاة.. هل أحببت أحدًا؟”
سألته أمه بلهجةٍ تحمل في طياتها تأنيبًا خفيفًا، لكنها أيضًا كانت مليئة بالفضول والحيرة. كانت ترى ابنها، في الثالثة والثلاثين من عمره، يعيش في عالمه الخاص، بعيدًا عن التفكير في الزواج أو تكوين أسرة.

نظر عنتر إلى أمه، تلك المرأة التي كرست حياتها من أجله، وابتسم ابتسامةً هادئة. كان يعلم أنها لا تفهم عالمه الداخلي، عالم الأحلام والروحانيات والعلم. لكنه قرر أن يشرح لها، بأسلوبه البسيط، ما يعيشه في قلبه.

“نعم يا أمي.. لقد أحببت اثنتين: رابعة العدوية وسميرة موسى.”
قال عنتر بصوتٍ ناعم، لكنه كان يحمل في طياته إصرارًا غريبًا.

نظرت إليه أمه بدهشة، ثم بغضبٍ متزايد. كانت تتوقع أن يذكر اسم فتاة من الجيران، أو ربما زميلة عمل، لكنها لم تكن تتوقع أن يذكر اسمين لنساءٍ عشن في عصورٍ مختلفة، واحدة منهن صوفية والأخرى عالمة.

“رابعة العدوية وسميرة موسى؟! وأين يسكنون؟ وهل تتزوج الاثنين؟!”
صاحت الأم بغضبٍ واضح، وهي تحاول أن تفهم ما يعنيه ابنها.

ابتسم عنتر مرة أخرى، ثم أجاب بهدوء:
“لقد تزوجتهم بالفعل يا أمي.. هم في قلبي.”
ثم بدأ يشرح لها من هما:
“رابعة العدوية علمتني أن أحب الله بكل قلبي، وأن أبحث عن السكينة في الروح. وسميرة موسى علمتني أن أحب العلم، وأن أعمل من أجل وطني. هما جزءٌ مني، جزءٌ من حياتي.”

لكن الأم، التي كانت تريد شيئًا ملموسًا، شيئًا يمكن أن تراه وتلمسه، لم تستطع أن تفهم كلمات ابنها. كانت تريد زوجةً تنجب أطفالًا، لا أحلامًا تملأ القلب والعقل.

“أريد فتاة تنجب أطفالًا، لا تنجب أحلامًا!”
قالت الأم بغضبٍ وعصبية، وهي تنظر إلى ابنها بعينين مليئتين بالإحباط.

وقف عنتر صامتًا للحظة، ثم نظر إلى أمه بعينين تحملان في طياتهما حزنًا خفيفًا. كان يعلم أنها لا تفهم، لكنه أيضًا لم يستطع أن يتخلى عن عالمه الداخلي، عن تلك الأحلام التي جعلته ما هو عليه.

“أمي.. الحياة ليست فقط عن الزواج والأطفال.. الحياة أيضًا عن الأحلام، عن الإيمان، عن العلم.. أنا أعيش لأجل شيءٍ أكبر.”
قال عنتر بصوتٍ هادئ، لكنه كان يحمل في طياته إصرارًا لا يلين.

لكن الأم، التي كانت ترى الحياة من منظورها البسيط، لم تستطع أن تقبل كلماته. كانت تريد لابنها حياةً “طبيعية”، كما تراها هي. لكن عنتر كان يعيش في عالمٍ مختلف، عالمٍ لا يمكن أن تفهمه بسهولة.

وهكذا، انتهى الحوار بينهما بصراعٍ صامت، حيث وقفت الأم عاجزة عن فهم ابنها، وظل عنتر متمسكًا بعالمه الداخلي، عالم رابعة العدوية وسميرة موسى، عالم الأحلام والإيمان والعلم. وكان يعلم أن طريقه لن يكون سهلاً، لكنه كان مستعدًا لمواجهة كل التحديات من أجل أن يحقق ما يؤمن به.

سافر عنتر القمحاوي مرة أخرى إلى طفولته، إلى تلك الأيام البسيطة التي كان يجمع فيها أطفال الحارة ليلعبوا لعبة الحرب. كانوا يجمعون عيدان الحطب، ويقسمون أنفسهم إلى فريقين: فريق يمثل مصر، وفريق يمثل الأعداء. كل ما كان يعرفه عنتر عن الحرب في ذلك الوقت كان التبارز، تلك اللحظات التي كانوا يتخيلون فيها أنهم أبطال يقاتلون من أجل وطنهم. كان عنتر دائمًا ما يقود فريق مصر، ويصرخ بأعلى صوته: “هيا نلعب لعبة الحرب.. سنهزم الأعداء!”

لكن تلك الألعاب البريئة كانت تتحول أحيانًا إلى لحظاتٍ من الحزن، خاصة عندما تأتي أخبار الشهداء من جبهات القتال. كان عنتر يرى الجنازات تمر في شوارع القرية، ويشاهد النساء يبكين بحرقة، ويسمع أصوات الرجال وهي ترتفع بالدعاء للشهداء. كانت تلك المشاهد تترك في قلبه أثرًا عميقًا، وكأنها تزرع فيه بذرةً من الحزن والفخر في نفس الوقت.

كان عنتر يجمع حبات الفراق من تلك الجنازات، حباتٍ من الدموع والألم، لكنها أيضًا كانت تحمل في طياتها معنىً عظيمًا: معنى التضحية من أجل الوطن. كان يرى الشباب يبكون على أخبار الاستشهاد، وكان يشعر بأن قلبه يمتلئ باحترامٍ عميقٍ لهؤلاء الذين قدموا أرواحهم فداءً لمصر.

وفي أحد الأيام، بينما كان عنتر يشاهد صور جنازات الشهداء، شعر بأن قلبه يمتلئ بحزنٍ غريب. كانت تلك الصور تذكره بأن الحرب ليست لعبة، وأن التضحية ليست مجرد كلمات تُقال. كانت تذكره بأن هناك نساءً أخريات، غير رابعة العدوية وسميرة موسى، قد دخلن إلى وجدانه: أمهات الشهداء.

أضيفت امرأة ثالثة إلى وجدان عنتر: “الصراط المستقيم في مصر”، كما كان يسميها. كانت تلك المرأة تمثل كل أمٍّ فقدت ابنها في الحرب، كل امرأةٍ وقفت تبكي على جثمان شهيد، كل أمٍّ ضحت بفلذة كبدها من أجل أن يعيش الآخرون في أمان. كانت تلك المرأة تمثل معنىً جديدًا للحب، حبٌ لا يقل عظمةً عن حب رابعة العدوية لله، أو حب سميرة موسى للعلم.

بدأ عنتر يبكي، وهو يشاهد صور جنازات الشهداء. كانت دموعه تنساب بلا توقف، وكأنها تحمل في طياتها كل الألم الذي رآه في طفولته، وكل الفخر الذي يشعر به تجاه هؤلاء الأبطال. كان يرى في كل شهيدٍ قصةً من التضحية، وفي كل أمٍّ قصةً من الصبر.

وهكذا، أصبحت أمهات الشهداء جزءًا من قصة عنتر القمحاوي، جزءًا من وجدانه الذي كان يحمل في داخله حبًا لله، وحبًا للعلم، وحبًا للوطن. وكان يعلم أن تلك الدموع التي يذرفها ليست دموع ضعف، بل هي دموع إنسانٍ يعرف معنى التضحية، ويعرف أن الحياة ليست فقط عن الأحلام، بل أيضًا عن الألم والفخر.

قرر عنتر أن يحول ذلك الحزن إلى قوة، وأن يستمر في طريقه، حاملًا في قلبه ذكرى الشهداء، وذكرى أمهاتهم، وذكرى كل من ضحى من أجل مصر. كان يعلم أن طريقه لن يكون سهلاً، لكنه كان مستعدًا لمواجهة كل التحديات، لأنه كان يعيش لأجل شيءٍ أكبر من نفسه: لأجل الله، لأجل العلم، ولأجل الوطن.

كان عنتر يجلس في غرفته الصغيرة، محاطًا بكتبه وأوراقه، وكأنها جدرانٌ تحميه من العالم الخارجي. كان قلبه يعيش في حالةٍ من الارتباك، يتساءل: “هل يتحمل قلبي ووجداني امرأة؟ هل يمكن أن أفتح بابًا آخر في حياتي، بعد أن سكنت رابعة العدوية وسميرة موسى في وجداني؟”

كان عنتر يعيش في صراعٍ داخلي، بين أحلامه الروحية والفكرية، وبين واقعٍ يفرض عليه أن يكون “رجلًا” بالمعنى الذي يفهمه المجتمع: أن يتزوج، وأن يبني أسرة. لكنه كان يشعر بأن قلبه ممتلئٌ بأحلامٍ أكبر من ذلك، بأشخاصٍ أصبحوا جزءًا من كيانه، برابعة التي علمته حب الله، وسميرة التي علمته حب العلم، وأمهات الشهداء اللاتي علمنه معنى التضحية.

وفي لحظةٍ من تلك اللحظات الصامتة، دخل عليه أبوه فجأة، يصرخ بصوتٍ عالٍ:
“عنتر! متى ستخرج من هذا الضعف؟ متى ستترك هذه الأحلام والأماني التي لا تُطعم خبزًا؟ الناس يعايرونني.. لدي المال ولا أزوجك!”

كان صوت الأب يحمل في طياته غضبًا وحيرة، لكنه أيضًا كان يحمل قسوةً تهدف إلى “إصلاح” ابنه، كما يراها هو. كان الأب رجلًا بسيطًا، يعيش في عالمٍ ملموس، حيث الزواج والأبناء والعمل هي أساس الحياة. ولم يكن يفهم عالم عنتر الداخلي، عالم الأحلام والروحانيات.

وقف عنتر صامتًا، يجمع في قلبه مشاعر مختلطة من الحب والخوف والاحترام تجاه أبيه. كان يحبه، لأنه يعلم أن كل ما يفعله هو من أجله، لكنه أيضًا كان يخاف من غضبه، ويحترم رأيه، حتى لو كان لا يتفق معه.

“ما تراه يا أبي؟”
سأل الأب بصوتٍ أقل حدة، لكنه كان يحمل في طياته تأنيبًا خفيًا.

نظر عنتر إلى أبيه، ثم أجاب بهدوء:
“لا أعرف..”
كان صوته يحمل في طياته حيرةً عميقة، وكأنه يعترف بأنه لا يعرف كيف يوازن بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي.

لكن الأب لم يترك له مجالًا للتردد، فأضاف:
“زميلي في العمل يقول إن لديك نساءً كثيرًا بالعمل.. لماذا لا تختار واحدة منهن؟”

هنا، شعر عنتر بغصةٍ في قلبه. كان يعلم أن أبيه لا يفهم، وأنه ينظر إلى الأمر من منظورٍ بسيط. لكنه أيضًا كان يشعر بأن عليه أن يرد، أن يشرح، حتى لو كان يعلم أن كلماته قد لا تُقنع.

“هل عبث النساء يصل إلى رابعة وسميرة؟”
قال عنتر بصوتٍ هادئ، لكنه كان يحمل في طياته إصرارًا غريبًا. كان يشعر بأنه لا يمكن أن يقارن أي امرأةٍ بتلك الشخصيات التي أصبحت جزءًا من كيانه.

لكن الأب، الذي كان يعيش في عالمٍ مختلف، لم يفهم كلماته. كان يرى أن ابنه يعيش في أوهام، وأن عليه أن “يصحو” ويعود إلى الواقع.

وهكذا، وجد عنتر نفسه في حالةٍ من الارتباك، بين شعورٍ يجمع بين الرأفة والشفقة تجاه أبيه، وبين فعل الطاعة الذي يفرضه عليه المجتمع. كان يعلم أن عليه أن يرضخ لطلب أبيه، لكنه أيضًا كان يعلم أن قلبه لن يكون سعيدًا بذلك.

في النهاية، قرر عنتر أن يحاول، أن يخطو خطوةً نحو الواقع، حتى لو كان يعلم أن قلبه سيظل ممتلئًا بتلك الأحلام التي جعلته ما هو عليه. وكان يعلم أن الطريق لن يكون سهلاً، لكنه كان مستعدًا لمواجهة كل التحديات، لأنه كان يعيش لأجل شيءٍ أكبر من نفسه: لأجل الله، لأجل العلم، ولأجل الوطن.

أصيب عنتر بلعنة الزواج الغضوب، ذلك الزواج الذي تحول إلى ساحة معركة بين المادة والحلم، بين الأماني والواقع. كانت زوجته، المرأة المخلصة في ظاهرها، تعيش في عالمٍ مختلف عن عالمه. كانت تسعى إلى “مستويات أفضل”، كما كانت تردد دائمًا، لكنها لم تكن تفهم أن عنتر يعيش لأجل شيءٍ أكبر من الماديات. كانت تريد بيتًا أكبر، وسيارةً أحدث، وحياةً أكثر رفاهية، بينما كان عنتر يحلم بعالمٍ من الروحانيات والعلم والتضحية.

كانت الزوجة تتغير عليه من أجل أحلامها، وكان عنتر يشعر بأنه يعيش في غربةٍ حتى داخل بيته. كان يحاول أن يفهمها، أن يتقبل طموحاتها، لكنه كان يشعر بأن هناك فجوةً عميقة بينهما، فجوةً لا يمكن ردمها بسهولة. كانت هي تريد المزيد من الحياة الدنيا، وهو يريد المزيد من الحياة الروحية والفكرية.

في تلك الأوقات الصعبة، كان عنتر يتذكر رابعة العدوية، تلك الصوفية التي علمته معنى الصبر والمثابرة. كان يتذكر كيف كانت رابعة تتحمل كل الصعوبات من أجل حبها لله، وكيف كانت ترى في الألم طريقًا إلى السكينة. وكان عنتر يستمد من ذكراها قوةً جديدة، قوةً تدفعه إلى الاستمرار، حتى لو كان يعيش في زواجٍ لا يفهمه.

كان يقول لنفسه:
“رابعة علمتني أن الصبر هو مفتاح كل شيء.. أن الألم ليس نهاية الطريق، بل هو بداية لفهمٍ أعمق للحياة.”
وهكذا، كان عنتر يحمل في قلبه صبرًا ومثابرة، يحاول أن يوازن بين واقعٍ مريرٍ وحلمٍ لا يموت.

لكن الزوجة لم تكن تفهم ذلك. كانت ترى في صبره ضعفًا، وفي مثابرته عنادًا. كانت تريد منه أن يتغير، أن يصبح مثل الآخرين، أن يهتم بالمال والمظاهر أكثر من اهتمامه بالأحلام. وكانت تتساءل في نفسها:
“لماذا لا يفهم أن الحياة ليست فقط عن الروحانيات والعلم؟ لماذا لا يرى أننا نحتاج إلى المزيد من المال، إلى المزيد من الراحة؟”

وهكذا، أصبح الزواج ساحةً للصراع، حيث كان كلٌ منهما يحاول أن يجذب الآخر إلى عالمه، لكن دون نجاح. كانت الزوجة تعيش في عالم المادة، وعنتر يعيش في عالم الحلم، وكانت الفجوة بينهما تزداد يومًا بعد يوم.

لكن عنتر، برغم كل ذلك، كان يعلم أن عليه أن يستمر. كان يعلم أن الحياة ليست دائمًا كما نريدها، لكنها أيضًا ليست دائمًا كما نخافها. وكان يعلم أن الصبر والمثابرة هما الطريق الوحيد لتحقيق التوازن، حتى لو كان ذلك التوازن هشًا.

وهكذا، استمر عنتر في حمل صبره ومثابرته، مستمدًا قوته من رابعة العدوية، ومن سميرة موسى، ومن كل من علموه أن الأحلام تستحق أن نحارب من أجلها. وكان يعلم أن طريقه لن يكون سهلاً، لكنه كان مستعدًا لمواجهة كل التحديات، لأنه كان يعيش لأجل شيءٍ أكبر من نفسه: لأجل الله، لأجل العلم، ولأجل الوطن.

بعد أن ابتعدت المسافة بين عنتر وسميرة موسى، شعر وكأنه فقد جزءًا من روحه. كان يعلم أنه أقل منها علمًا، أقل عبقرية، أقل دقة، وأكثر عبثية. لم يكن بمقدار عبقريتها، ولم يستطع أن يصل إلى ما وصلت إليه من إنجازات علمية. كانت سميرة، بالنسبة إليه، رمزًا للكمال الذي لا يمكن بلوغه، لكنها أيضًا كانت مصدر إلهامه الأكبر.

لكن مع الوقت، بدأت سميرة تلوح له بالرحيل، ليس رحيلًا جسديًا، بل رحيلًا معنويًا. تركت له بدلًا من الحب أمنية الرحيل، وكأنها تقول له: “أحلامك العلمية تجعلك حالمًا، لكنها لا تجعلك عالمًا.”
كانت تلك الكلمات تتردد في رأسه، وتذكره بأنه قد لا يكون قادرًا على تحقيق ما حققته هي، لكنها أيضًا كانت تدفعه إلى الاستمرار في الحلم.

وهكذا، انصرفت سميرة من حياته، لكنها تركت له إرثًا من الأمل والإصرار. كان عنتر يقول لنفسه:
“حالم بالعلم خير من عالم بالجهل.”
وكان يعلم أن طريقه لن يكون سهلاً، لكنه كان مستعدًا لمواجهة كل التحديات، لأنه كان يعيش لأجل شيءٍ أكبر من نفسه.

لكن الحياة لم تكن رحيمةً مع عنتر. في إحدى الأيام، بينما كانت القرية تعاني من بردٍ قارسٍ بسبب أحداث سياسية أثرت على أحوال البلاد، خرج الناس إلى الجبال بحثًا عن الدفء والأمان. وفي تلك الأجواء الباردة، التقي عنتر بشكلٍ سحابي بامرأةٍ غريبة، امرأةٍ كانت تحمل في طياتها شيئًا من رابعة العدوية وسميرة موسى. كانت تلك المرأة تعشق قريته، لكنها كانت تعيش في السحاب، بعيدةً عن الواقع.

لم يلتقيا كعاشقين، بل التقيا في لحظةٍ عابرة، حيث أشارت له بتلك المرأة السحابية إلى رابعة وسميرة، وكأنها تقول له: “هما دليلك.. اتبعهما.”
لكن تلك اللحظة السحابية لم تدم طويلاً، فقد التقي عنتر بعدها بمرضٍ شديدٍ أقعده عن الحركة لأربع سنوات.

في تلك السنوات الأربع، كانت رابعة العدوية وسميرة موسى والمرأة السحابية تلوح له من بعيد، كأنهن يذكرنه بأن الأحلام لا تموت، حتى في أحلك اللحظات. لكن الواقع كان قاسيًا، حيث كانت زوجته تعطيه أقراص علاجه بسخطٍ وغضب، وكأنها تريد أن تقول له: “هذا هو ثمن أحلامك.. هذا هو ثمن إصرارك على العيش في عالمٍ آخر.”

كان عنتر يعيش في حالةٍ من التناقض، بين أحلامه التي لا تموت، وواقعٍ مريرٍ يفرض عليه أن يعيش في ألمٍ دائم. لكنه كان يعلم أن عليه أن يستمر، أن يحمل في قلبه صبرًا ومثابرة، حتى لو كان يعيش في ظل مرضٍ شديد وزوجةٍ لا تفهمه.

وهكذا، استمر عنتر في حلمه، متمسكًا برابعة العدوية وسميرة موسى، وبكل من علموه أن الحياة ليست فقط عن الماديات، بل هي أيضًا عن الروحانيات والأحلام. وكان يعلم أن طريقه لن يكون سهلاً، لكنه كان مستعدًا لمواجهة كل التحديات، لأنه كان يعيش لأجل شيءٍ أكبر من نفسه: لأجل الله، لأجل العلم، ولأجل الوطن.

قرر عنتر أن يعيش، أن يفر من واقع زوجته المادي والحازم، الذي كان يكبّل أحلامه ويكتم أنفاسه. كان يعلم أنه لم يعد قادرًا على تحمل ذلك العبء الثقيل، عبء الحياة التي لا تحمل في طياتها سوى الماديات والصراعات. قرر أن يخرج من قوقعته، أن يحكي للمسئولين كل أحلامه وأمانيه، كل نقده للواقع الأليم الذي يعيش فيه. كان يريد أن يصرخ في وجه العالم، أن يقول لهم إن الحياة ليست فقط عن المال والسلطة، بل هي أيضًا عن الروحانيات والأحلام.

وفي لحظةٍ من تلك اللحظات التي قرر فيها أن يواجه العالم، لاحت له امرأة سحابية أخرى، لكن هذه المرة جاءت بشكلٍ مختلف. كانت طبيبة، تكشف على قواه العقلية، على دقة معلوماته، وعلى الينبغيات التي يطلقها عندما يتحدث عن أحلامه. كانت تلك المرأة تستمتع ببعض استجاباته، حتى أنها أنسته اسمه لوهلة، وكأنها تريد أن تقول له: “أنت أكثر من مجرد اسم.. أنت فكرة، أنت حلم.”

لكن تلك اللحظة السحابية كانت تحمل في طياتها صدمةً بالغة الخطورة للانتماء. شعر عنتر وكأنه يفقد جزءًا من هويته، جزءًا من ارتباطه بوطنه، بزفتى، بكل ما يعرفه. كانت تلك المرأة تذكره بأن الانتماء الحقيقي ليس فقط إلى الأرض، بل إلى الفكرة، إلى الحلم.

وهكذا، رحلت جميع النساء من حياة عنتر: زوجته التي كانت تعطيه أقراص علاجه بسخطٍ وغضب، والمرأة السحابية التي جاءت بشكل طبيبة، وسميرة موسى التي كانت تمثل له حلم العلم. وبقت رابعة العدوية، تلك الصوفية التي علمته معنى الحب الإلهي، ومعنى الصبر والمثابرة.

عاش عنتر في فراقٍ لوطنٍ لا يفترق، وكأن لحمه وعظمه أصبحا جزءًا من تراب زفتى، من ماء النيل، من هواء الدلتا. لكنه أدرك أن أكثر الناس لا يعقلون، لا يفهمون معنى ذلك الانتماء العميق، معنى أن تعيش لأجل شيءٍ أكبر من نفسك.

وهكذا، قرر عنتر أن يكتفي برابعة العدوية، أن يرمم انتماءه، وأن يعيش كإنسانٍ من أجل الميكال والميزان، من أجل العدل والحق، من أجل شيءٍ أكبر من الماديات. قرر أن يعطي كل ممتلكاته لزوجته، كأنه يريد أن يقول لها: “خذي كل ما تريدين من الحياة الدنيا، فأنا أعيش لأجل شيءٍ آخر.”

كان عنتر يعلم أن طريقه لن يكون سهلاً، لكنه كان مستعدًا لمواجهة كل التحديات، لأنه كان يعيش لأجل شيءٍ أكبر من نفسه: لأجل الله، لأجل العلم، ولأجل الوطن. وكان يعلم أن رابعة العدوية ستظل دائمًا معه، كشعلةٍ من نورٍ تهديه في طريقه.

وهكذا، أصبح عنتر القمحاوي رمزًا للصبر والمثابرة، رمزًا للحلم الذي لا يموت، رمزًا لإنسانٍ قرر أن يعيش لأجل شيءٍ أكبر من نفسه، حتى لو كان يعيش في عالمٍ لا يفهمه. أنتهي عنتربقوله إن ربي رحيم ودود وما توفيقي الا بالله
كلهم أغلقوا الباب إلا باب السلطان كانت رابعة ومازالت وإن شككوا يبقي الله.
رجم القلوب”:

في عوالم يكتنفها الظلام، حيث تتصادم الأرواح وتتناثر حلمًا وراء حلم، تتجلى قصة “رجم القلوب”، هذا العنوان الذي يحمل في طياته عبء الحزن والجمال معًا. يتناول الحكاية قلوبًا تنزف تحت وطأة الأحكام والكلمات القاسية، تلك التي تُعتصر بضغط المواقف الإنسانية المعقدة.

تروي القصة حكاية شخصيات تائهة، تبحث عن الحب والقبول في عالم لا يرحم، فتتجاوز جراح الماضي لتواجه تحديات جديدة. لكل قلب رُجم بحجارة الخذلان، هناك أيضًا قلوب تنبض بالأمل، تبحث عن فسحة من الأمان وسط زوابع الحياة. في كل صفحة، يتداخل الألم مع القوة، وتُكشف الأسرار الخفية التي تتحكم بمصائرهم.

“رجم القلوب” ليست مجرد قصة عن الفقد، بل رحلة نحو فهم الذات وإعادة بناء العلاقات، ليتجلى في النهاية أن هناك أملًا يلوح في الأفق، حتى بين الأنقاض. فهل ستستطيع القلوب المثقلة أن تجد طريقها نحو الخلاص، أم ستظل محاصَرة بين جدران الألم والذكريات؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى