زي النهاردة بقلم عبدالفتاح موسى
حينما كنت في سن المراهقة كنت مشاغباً جداً وكثير الجدال مع أبي وكنت مثل كل الصبيان في هذا العمر والحقبة الزمنية أقرب لأمي أكثر من أبي بل وكان دائماً البيت بأكمله يعاني من حالة التوتر الدائم التي أتسبب فيها.
علي الرغم من أني لم أشك لحظة منذ طفولتي في حب أبي ولكني كنت دائماً أرى أنه يحبني بطريقته هو وليس كما أرغب أنا وكأني كنت أملك من الخبرة في عالم التربية ما يجعلني أستطيع أن أقيم هذا الرجل الرشيد الذي يملك من الخبرة و التجارب ما يعادل اضعاف عمري رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته.
وظلت تلك العلاقة المعقدة صاحبة التركيبة الغريبة والغير منطقية في التطور يوم بعد يوم .
حقاً إنها يا عزيزي توصف بأنها “علاقة معقدة جداً” فأنا لا أبالغ ، فهي علاقة يملؤها التوتر والصراعات ولكن لا يستطيع اي من الطرفين فيها الاستغناء عن الآخر، كنت دائماً أتعمد الهروب من اللقاء و المشاكل ولكني كنت أيضاً اشتاق إلي أبي منتهي التناقض ولكنها الحقيقة، كنت دائماً أفكر كيف يستطيع هذا الرجل ان يكون أباً بهذة الصفات التي لم يكن بمقدوري وقتها ان استوعبها وكنت أراها غلظة وتسلط وفي نفس الوقت أراه ذلك الرجل خفيف الظل الذي تحب أن تجالسه!
و مرت الايام والسنين وتخرجت من الجامعة وسرعان ما أندمجت في العمل والحياة العملية ومشاغلها والتي كان لها الأثر الكبير في الانتقال من حياة المراهقة إلي حياة المسؤلية والعقلانية وفكر الرجل الناضج .وهنا بدأت أري أبي بشكل آخر لم أراه من قبل دون أن أدري متى قد حدث هذا التغير وكيف وأين ذهب كل التوتر لتأخذ العلاقة شكل جديد بين صديقين كليهما يحمل كل الحب والمشاعر للآخر ليصبح وقتها أبي هو الصديق الأقرب إلي قلبي في هذا الوقت لينتظر كل مننا الآخر على العشاء أو لقضاء وقت لطيف نتنزه في الشوارع وقت الغروب ونسارع في فتح المواضيع وتجاذب أطراف الحديث في أي شيء أو نعلق علي أي حدث .
وكنت في هذه المرحلة أتقبل النصائح بصدر رحب وعقل مدرك تماماً قيمة الرجل صاحب الخبرات العظيمة وذهبت النظرة الصبيانية والنزعة إلي العزلة والفكر السلبي.
أتذكر يا عزيزي في ذات ليلة كنت باقياً في المكتب حتى ساعة متأخرة من الليل وكنت لم أري صديقي العزيز ( أبي) ثلاثة أيام متتالية فإذ بي أجده يتصل بي هاتفياً ليقول لي (وحشتني و مش حتعشي إلا لما ترجع) و لم أجد نفسي وقتها إلا تاركاً كل شيء وراء ظهري وأتجهت مسرعاً إلي البيت وعقلي رافض أن يفكر في أي شيء سوى مائدة العشاء التي تجمعنا أمام التلفاز لنحكي و نضحك كما الاصدقاء أتذكره حينما دخلت عليه البيت فقال لي (معلش خليتك سبت شغلك و جيت أصل اتعودت عليك بجد وطول عمري من يوم ما خلفتك وكبرت أدامي بحلم باليوم ده) قبلت يده و بدأنا أحد سهراتنا الجميلة.
و تمر الايام و تشتد علاقة الصديقين لتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن و في مثل هذا اليوم ١٤ ديسمبر ٢٠٠٩ وكان قد أشتد المرض و تصدع هذا الجبل الشامخ لتنتهي رحلته على فراش المرض بالمستشفي.
أتذكر لحظات الوداع و أنا على يقين أنه اليوم الأخير حينما قررت أنا اذهب إلي مقر عملي لأغلق كل ما تركته من الأمس فأمسكت بيده و قبلتها و قلت له (مش عايز حاجة أنا رايح و راجع ) فقبل يدي هو الآخر في اعظم مشهد وداع في التاريخ و هو يقول لي(أنت مش عايز حاجة يا حبيبي) ، وذهبت و أنا أفكر ماذا يقصد بسؤاله ( أنت مش عايز حاجة؟) و لم أدرك وقتها انه اللقاء ا الاخيرة قبل الفراق .
و من يومها هذا و أنا اقول ليتني سمعت النصيحة الأخيرة ليتني لم أضيع الوقت في الجدال والصراع ليتني أستمتعت بكل لحظة مع رجل لم يكن شخص عادي أبداً و كلما أتذكره أمسكت بهاتفي لأتحدث قليلاً الي أمي أطال الله عمرها حتى لا أضيع أي وقت وأفتح باب الندم والحسرة من جديد.
كلما أتذكره أحمد الله الآف المرات أن هذا كان أبي وأفتخر به وأحمد الله أكثر وأكثر أنني حظيت وهداني الله إلي صداقته وأنه بفضل المولي عز وجل لم يرحل إلا ونحن أصدقاء الي هذا الحد.
و من هنا يا عزيزي نصيحتي إليك إذا كان أحداً من والديك أو كلاهما علي قيد الحياة فلا تقل لهم أف ولا تنهرهما ولا تضيع أي فرصة دون أن تستمتع بهما احتضنهما واختلس النظر جيداً إلي ملامحهم قَبل يديهم وراضيهم ولا تجادلهم فتفقد أجمل اللحظات التي لم يمنحك الزمن أياها مره أخرى قبل أن يصبح الامر ذكريات (زي انهارده) وقبل فوات الأوان فمن أكرمه الله بحياة والديه أو أحدهما فقد فتح له بابا إلى الجنة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “الوالد أوسط أبواب الجنة..”.
وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أردت الغزو وقد جئت أستشيرك؟ فقال: هل لك أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها فإن الجنة تحت رجليها”.
بر الوالدين عزيزي القارئ من أهم الواجبات ومن أعظم الفرائض، وقد قرن الله حق الوالدين بحقه سبحانه بالتوحيد حيث قال جل وعلا في كتابه العظيم: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الإسراء:23