منوعات
هل هو تحول رقمى أم تحول إنسانى؟

بقلم أ.د. فاطمة الزهراء سالم
أستاذ أصول التربية والسياسات التعليمية
كلية التربية -جامعة عين شمس
مع المناداة المستمرة بالتحول الرقمى Digital transformation من أجل تيسير حياة الإنسان، ومحاولة جعل المعاملات البشرية يسيرة على الناس، بدأت إرهاصات التحول الإنسانى humanistic transformation ،وانتقال الذهنية إلى عصر الرقمنة، وترجمة كل شئ إلى أرقام ،ورموز، وعلامات، وشفرات ،وأكواد حتى المشاعر الإنسانية ،والقيم الأخلاقية أضحى يُنظر إليها على أنها أرقام .
فالشخص جدير بالإهتمام والرعاية مع امتلاكه سيارة فارهة، ويسكن فى أرقى الأحياء، ولديه رصيد كبير فى البنوك، ويعتلى المناصب الهامة ويتصل بالسلطة ، ويأكل فى مطاعم فاخرة …………………
وهذه النقلة النوعية فى أذهان الناس تسربت بفعل تسعير الحياة الإنسانية ،وتقييم المرء بناء على الأشياء دون الممارسات الإنسانية الحميدة .
وعند مراقبة سلوك الأطفال قادة المستقبل نلمح أنهم لا يدركون الحياة الإنسانية كما خبرتها الأجيال السابقة، بل إن عقولهم قد ترقمنت مثلما ترقمن عصرهم، فأصبحت الحياة عبر الموبايل ( الهواتف النقالة) أهم بكثير من الحياة مع الأسرة أو الحديث مع الأصدقاء، أو حتى التجمع حول التلفاز والترفيه العائلى أيام الأجازات.
ونرى التحول الإنسانى ناصية رقمنة المشاعر فى الإكتفاء برسائل للتهئنة بالمناسبات ،والإحتفالات، أو إعداد فيديوهات مصورة بأجمل اللحظات، أو إرسال رموز ( إيموجى) تعبر عن المناسبات مثل التورتات والورود ،والبالونات فى حالات أعياد الميلاد، ورموز الحزن والمواساة فى حالات الوفاة والعزاء ، ورموز الكأس والقبعة للتعبير عن مراسم التخرج أو النجاح فى المدرسة أو الجامعة …..وغيرها من المراسم الرقمية التى شيئت كل شئ فى حياتنا، والشعور الوهمى بملأ الفراغ الإنسانى ،والعاطفى ،والإنسانى، ولكن فى حقيقة الأمر إنه انترنت الأشياء، وعالم الوهم الإفتراضى الذى أوهن الحياة الإنسانية الحقيقية .
لا أعتقد أبداً أن رسالة التحول الرقمى هى هدم الحياة الإنسانية، ولا أتصور أن الهدف هو إلغاء التواصل الإنسانى الحقيقى بين البشر فيما بينهم على أرض الواقع فى أماكن العمل ،والمطاعم ،والكافيهات ،والمنازل ،والمسارح ،والسينيمات ،والحدائق ،والمنتزهات، وغيرها من وسائل دعم التواصل البشرى ،وتحقيق إنسانية الإنسان ،وذاته الحقيقية ……..
وإنما أحسب أن رسالة التحول الرقمى هى مساندة الحياة العادية الأساسية ،وتيسيرها أكثر من أجل قضاء الحاجات، وإنجاز المهام ،والتواصل الجاد مع العالم الخارجى دونما الإعتماد الكلى على التحول الرقمى ،وإلغاء الحياة البشرية التواصلية بين الناس، وإلا ستتحول عقولنا إلى روبوتات تنفذ ما تريده البرامج الإلكترونية، والرد على الرسائل القصيرة عبر الواتس آب أو التليجرام أو غيرها دون فهم وحديث، وحوار عقلانى ،ومنطقى لكل ما يحدث ولماذا يحدث .
إن عمل العقل بمفرده دون عمل الوجدان يضعف قدرة المرء على الشعور الأخلاقى والقيمى، والنظر لكل من حوله بعين العطف ،والرحمة ،والمساندة ،والتعاون وكافة القيم التى تتطلب التواصل البشرى الحى وليس الديجيتال ( الرقمى).
وكل ما نخشاه فى المستقبل القريب مع هذا التحول الإنسانى وفقاً للتحول الرقمى أن يموت الإنسان إفتراضياَ ،ورقمياً ،وهو لا يزال على قيد الحياة.
ومن ثم فمثلما كانت هناك ثورة رقمية ،وتحول رقمى لكل شئ،لابد من صحوة إنسانية وأخلاقية ،وإدراك أن ما يقدر على فعله القلب والشعور والوجدان لا يمكن أن يفعله العقل ، وأن الإنسان بحاجة لكلا المنحنتين اللاتى وهبهما الله إياه ألا وهما (القلب والعقل) .
من هنا تأتى مسئولية منظومة التعليم والسياسات التعليمية فى عودة إلى المسارح المدرسية والجامعية، والفرق الموسيقية، وإحياء المناسبات الإجتماعية، والاحتفالات، والرحلات العلمية للمدارس والجامعات، والاستكشافات العلمية ،وفريق الكشافة فى المدارس والجامعات، وحصص الزراعة ، والتدبير المنزلى، والورشة الفنية، والرسم ، وغيرها من الأنشطة التى تعمق التواصل الإنسانى ،وتوظف التعامل العقلى والوجدانى معاً.



