تحقيقات وملفات

الصناعات الإبداعية والثقافية فى مصر

تقرير محمد عبد المولي 

في إطار الزخم الذي أصبحت تتمتع به الصناعات الثقافية والإبداعية في عالم اليوم باعتبارها من أسرع الصناعات نموًا في العالم، يسلِّط عددنا الرابع من النشرة الأسبوعية الضوء على الصناعات “الثقافية والإبداعية في مصر”.

وقد تمّ اختيار موضوع الصناعات الثقافية والإبداعية، نظرا لما تملكه تلك الصناعة من أهمية كبرى كمحرك للاقتصاد في جميع الدول، إضافة إلى قدرتها على خلق فرص العمل، إلى جانب أنها تعد مصدرا مهما للدخل القومي، كما تشكِّل الصناعات الثقافية والإبداعية أحد مصادر القوة الناعمة للدولة. حتى أن الأمم المتحدة أعلنت عام 2021 عاما للاقتصاد الإبداعي.

نتمنى أن تنال موضوعاتنا إعجابكم، وفي انتظار آرائكم
—————————————————————-
ومقترحاتكم.
—————-
في هذا العدد
—————–

أعلنت الأمم المتحدة 2021 عامًا للاقتصاد الإبداعي، وذلك بموجب التصديق على قرارها الصادر في نوفمبر 2020؛ لجعل عام 2021 “السنة الدولية للاقتصاد الإبداعي من أجل التنمية المستدامة”، وقد جاء ذلك في ظل تداعيات جائحة كورونا، والتي امتد تأثيرها إلى الصناعات الثقافية والإبداعية في مراحلها كافة، بدءًا من التصميم، مرورًا بالإنتاج والتوزيع، وانتهاءً بتعميم الانتفاع بهذا الإبداع، كما كشفت الأزمة الصحية عن مدى أهمية الإبداع من أجل طيب العيش خلال عام 2020، مما زاد من الاهتمام بالفنون، الأمر الذي يجعل من عام 2021 التاريخ الأنسب للاحتفاء بالاقتصاد الإبداعي والاستثمار فيه.

ويقصد بالاقتصاد الإبداعي أو (الاقتصاد البرتقالي) مجموعة الأنشطة الاقتصادية التي تجمع بين الموهبة والإبداع والتكنولوجيا والثقافة، بمعنى آخر تحويل الأفكار إلى سلع وخدمات ثقافية، ويضم المصطلح بمعناه الشامل جميع الديناميات المرتبطة بالأنشطة الثقافية المساهمة في السوق الاقتصادية.

هذا، وقد احتفل العالم باليوم العالمي للإبداع والابتكار في 21 أبريل الجاري، بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي صدر في الـ 27 من أبريل 2017، والذي ينص على الاحتفال باليوم العالمي للإبداع في 21 أبريل من كل عام، وذلك من أجل التشجيع على ابتكار أفكار جديدة وزيادة الوعي بدور الإبداع والابتكار في حل المشكلات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق التنمية المستدامة.

وتُعرف الصناعات الثقافية والإبداعية بأنها تلك الصناعات التي تقدم سلعًا أو خدمات مبنية بالأساس على الموهبة والإبداع، ولكن يُشترط أن تتبنّى هذه مجموعة من الممارسات الإدارية والفنية لكي تكون صناعة تشبه التصنيع بمفهومه التقليدي، من حيث الاستثمار ، والإنتاج الكثيف، والتسويق، إضافة إلى الممارسات الإدارية التي تحقق الربح قبل المهمة المجتمعية.

ويرتبط مفهوم الصناعات الثقافية ببعض الأنشطة الفكرية والإبداعية الموجهة إلى قاعدة واسعة من الجماهير، وتمرّ تلك الصناعات بمراحل متعددة حتى تخرج في صورتها النهائية، كما تدخل في عملية إنتاجها رؤوس أموال كبيرة، ويُستعاض بآليات السوق عن الاتصال المباشر مع المبدع لنقل العمل الإبداعي إلى الجمهور الواسع عبر وسائط متعددة كالنشر، والحرف اليدوية، والإنتاج السينمائي، ومتاحف التراث وغيرها من المنتجات الثقافية.

ويندرج تحت الصناعات الثقافية والإبداعية ما يقرب من 13 صناعة على الأقل، وتشمل الصناعات الثقافية مجالات النشر والموسيقى والسينما والمهن الحرفية والتصميم، وهي صناعات تشهد نموًا مستمرًا ومتعاظمًا، وتلعب دورًا حاسمًا في مستقبل الثقافة.

تُسهم الصناعات الثقافية والإبداعية بنحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي سنويًّا؛ حيث يبلغ الإيراد الخاص بها نحو 2250 مليار دولار أمريكي حول العالم، ويرجِّح البنك الدولي أن ترتفع هذه النسبة إلى 10% سنويًّا، كما يوفر هذا القطاع 30 مليون وظيفة تقريبًا، وفقًا لتقرير منظمة اليونسكو الذي صدر في أواخر عام ٢٠١٥.

وتعد الصناعات الثقافية والإبداعية محركًا قويًّا للاقتصاد الرقمي Digital economy، وقد بلغت المبيعات الرقمية حول العالم في عام 2013 حوالي 200 مليار دولار، وذلك وفقًا لتقرير اليونسكو لعام 2015، وتعد السلع الثقافية الرقمية أكبر مصدر للدخل بالنسبة للاقتصاد الرقمي.

وتتجاوز عائدات الصناعات الثقافية والإبداعية ما يقدمه قطاع خدمات الاتصالات بحوالي ١,٧٥٠ مليار دولار عبر العالم، كما أنه يتفوق على الناتج القومي الإجمالي لدولة كبيرة مثل الهند بما يُقارب ١,٩٠٠ مليار دولار.

هذا، وقد زاد حجم السوق العالمية للسلع الإبداعية من 208 مليارات دولار في عام 2002 إلى 509 مليارات دولار عام 2015، وفقًا لتقرير الأونكتاد لعام 2019.

وتتضمَّن الصناعات الثقافية والإبداعية عددًا من الصناعات الفرعية، وتعد الصناعات والخدمات الخاصة بالتليفزيون هي الأعلى ربحًا (٤٧٧ مليار دولار)، ثم الفنون البصرية (٣٩١ مليار دولار)، ثم الصحف والمجلات والنشر (٣٥٤ مليار دولار)، وفقًا لتقرير اليونسكو لعام 2015.

في حين تخطى دخْل الألعاب الإلكترونية دخْل التليفزيون في عام ٢٠١٨، وأصبحت سوق هذا المنتج الثقافي -قياسًا بدخله- تعادل أسواق السينما والتليفزيون والراديو مجتمعة، فقد فاقت ١٦٠ مليار دولار في عام ٢٠٢٠، كما أنها سوق تعتمد على الربط الوثيق بين الإبداع في المنتج الثقافي (السيناريو والرسم والتصوير)، والتمكن العلمي في الإخراج، عبر تفعيل دور الذكاء الاصطناعي، وتقنيات الواقع الافتراضي Virtual reality.

أما فيما يخص حجم الإنتاج السينمائي على مستوى العالم، فإن الدولة الأعلى مبيعا للتذاكر هي الهند، تليها الصين، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ارتفاع عدد التذاكر المباعة لا يعنى بالضرورة تحقيق أعلى الإيرادات، فهذا مرتبط بسعر التذكرة؛ وبذلك نجد أن الولايات المتحدة تحقق أعلى الإيرادات وبفارق ضخم مقارنة بالحالة الهندية (42 مليار دولار و5.2 مليارات دولار على التوالي)، وفقًا للمركز المصري للدراسات الاقتصادية، ثم تأتى الدول الأخرى بقيم أقل كثيرا، ونلاحظ مرة أخرى أن إيرادات السينما في مصر لا تتعدى 72 مليون دولار في نفس عام المقارنة.

كما بلغ حجم التجارة العالمية للحرف اليدوية والتقليدية عام ٢٠١٨ ما يزيد على ١٠٠ مليار دولار، وقد أشارت منظمة اليونسكو إلى أن ٢٠% من النشاط الريفي في الدول النامية يتم في قطاع الحرف لتنشيط آفاق الاستثمار والإنتاج والتشغيل والسياحة، وبهذا تسهم على الأقل بنسبة ٣ %من الناتج الإجمالي، كما أشار صندوق النقد الدولي إلى أن المشروعات الصغيرة والمتوسطة تلعب دورًا في تعزيز توظيف العمالة في الاقتصادات النامية، وأنها يمكن أن تخلق حوالي ١٦ مليون وظيفة بحلول عام ٢٠٢٥ في منطقة الشرق الأوسط.

المصدر

لا ترتبط مساهمة الدول في الصناعات الثقافية والإبداعية بمقدار التقدم الذي تشهده تلك الدول؛ إذ تجاوزت مشاركة الاقتصادات النامية في تجارة السلع الإبداعية الاقتصادات المتقدمة في الفترة من 2000 إلى 2015، كما تصدرت الصين قائمة الدول المصدّرة للمنتجات الثقافية، وزاد نمو صادراتها من المنتجات والخدمات الثقافية وبلغ ١٣٧ مليار دولار أمريكي عام 2018.

وتجدر الإشارة إلى أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ تحتلّ المرتبة الأولى في حجم عائدات الصناعات الثقافية (٧٤٣ مليار دولار، و١٢,٧ ملايين وظيفة)، تليها أوروبا( ٧٠٩ مليارات دولار و٧,٧ ملايين وظيفة)، وأمريكا الشمالية( ٦٢٠ مليار دولار و٤,٧ ملايين وظيفة)، وأمريكا اللاتينية (١٢٤ مليار دولار و١,٩ ملايين وظيفة)، وذلك وفقًا لتقرير Cultural times للصناعات الثقافية والإبداعية الصادر عن منظمة اليونسكو عام 2015.

ووفقًا للتقرير ذاته، حققت دول الشرق الأوسط وإفريقيا عائدات بقيمة 58 مليار دولار، أي ما يُعادل 3% من إجمالي عائدات الصناعات الثقافية عالميًّا، ويوفر القطاع في تلك الدول نحو 2.4 مليون وظيفة، بما يمثِّل 8% من إجمالي وظائف قطاع الصناعات الإبداعية والثقافية، هذا، ويسيطر الاقتصاد غير الرسمي على الصناعات الثقافية والإبداعية في إفريقيا والشرق الأوسط.

المصدر

أصبح للصناعات الثقافية والإبداعية دورٌ مهمٌ في الاقتصاد المصري؛ حيث تُسهم بنحو مليار وربع المليار دولار من إجمالي الصادرات المصرية، وفقًا لتقرير UNCTAD الصادر عام 2018، والذي يسلِّط الضوء على الفترة من 2004 إلى 2015، وتحتل مصر المركز الأول في الشرق الأوسط من حيث الإنتاج الثقافي.

وعلى الرغم من انخفاض إيرادات القطاع السينمائي في مصر، فإنها ما زالت أعلى من دول أخرى عربية كثيرة؛ حيث تحتل المركز 16 عالميًا، وهذا يؤكد أن مصر على الرغم من تأخرها عالميا في مجال الإيرادات، فإنها ما زالت الأعلى في العالم العربي.

وتتمتع مصـر بالعديد من الإمكانات التي تؤهلها للاضطلاع بـدور ريـادي فـي مجـال القـوى الناعمـة، في ضوء سعيها إلـى التحول إلى مجتمـع معرفـي مُبـدع، وقد اتضح ذلك في مؤشر القوة الناعمة العالمي 2021؛ حيث احتلت مصر الترتيب الـ 34 عالميًّا، بدرجة 38.4، والرابع عربيًّا، وذلك بتحسُّن 4 درجات عن العام الماضي.

المصدر
رؤى عن الصناعات الثقافية في مصر
عماد أبو غازي
وزير الثقافة الأسبق

الطريق نحو النهوض بالصناعات الثقافية والإبداعية في مصر

لقد أولت استراتيجية التنمية المستدامة (رؤية مصر ٢٠٣٠ ) اهتمامًا واضحًا بالصناعات الثقافية، فقد نصّ الهدف الأول في محور الثقافة على: «دعم الصناعات الثقافية كمصدر قوة للاقتصاد»؛ وجاء في تعريف الهدف أن المقصود به «تمكين الصناعات الثقافية لتصبح مصدر قوة لتحقيق التنمية والقيمة المضافة للاقتصاد المصري، بما يجعلها أساسًا لقوة مصر الناعمة إقليمياّ ودوليّا».

وتشمل الصناعات الثقافية السينما والمسرح والموسيقى والغن اء والفن التشكيلي والإذاعة والتلفزيون والنشر والكتب والحرف التراثية، وحددت الاستراتيجية أهم التحديات التي تواجه هذه الصناعات في مصر في ضعف التشريعات المتعلقة بحماية الملكية الفكرية والتنافسية ومنع الاحتكار.
ثم اقترحت الاستراتيجية مجموعة من المؤشرات الكمية والموضوعية لقياس تحقيق هدف تطوير الصناعات الثقافية، كما اقترحت ضمن البرامج والمشروعات برنامجًا لمراجعة التشريعات

د. معتز خورشيد
وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأسبق
القوة الناعمة والصناعات الإبداعية والثقافية: “المناخ العالمي وفرص مصر”

تحظى مصر بقدرات عديدة تؤهلها للاضطلاع بدور ريادي على مستوى المنطقة العربية في مجال «القوى الناعمة » بصفتها قوى تسهم في تحول مصر إلى مجتمع معرفي مُبدع، وتدعم جهود التنمية المستدامة، بالإضافة إلى تأكيد الدور المصري في التأثير الثقافي على مستوى محيطها الإقليمي العربي. وتُعرَّف القوة الناعمة ( Soft Power ) باعتبارها «استقطاب آخرين وجذبهم عبر آليات تقوم على الإقناع والجاذبية، بالاعتماد بشكل أكبر على موارد ناعمة غير مادية؛ مثل الثقافة، والأدب، والفنون، والقيم السياسية، وشرعية السياسات الخارجية، لتحقيق النواتج المنشودة».

القوة الناعمة

تتميز القوة الناعمة بمعيارين رئيسين: يعتمد المعيار الأول على «نعومة أساليب ممارسة القوة» التي تعني بالأساس تراجع الطابع المادي وغلبة الطابع المعنوي النفسي الفكري، من خلال «القدرة على التأثير في الآخرين عبر الآليات الجاذبة أو الاستقطابية التعاونية، أو الإقناع». ويختص المعيار الثاني «بنعومة موارد الدولة » أي القدرة على تحقيق الأهداف المرغوبة من خلال جاذبية الدولة وصورتها الذهنية الإيجابية التي تعتمد أساسًا على موارد يغلب عليها الطابع غير المادي؛ مثل ثقافتها ومبادئها وقيمها، وسياساتها الداخلية والخارجية، على نحو يخلق تعاطفًا من الدول الأخرى مع سياساتها وأهدافها.

أثرت جائحة كورونا على قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية في دول العالم كافة، في ضوء الكساد الاقتصادي الكبير الذي حدث بموجب تدابير الإغلاق التي اتخذتها دول العالم لمكافحة الوباء؛ إذ طالت آثاره جميع القطاعات الاقتصادية في العالم، وبالتالي كان الوباء بمثابة اختبار لقوة قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية وقدرته على الصمود.

وتجلّى تأثير الجائحة على المنظمات الثقافية في إلغاء الفعاليات المجدولة، أو توقف أنشطة بعض المنظمات بصورة مؤقتة أو دائمة، فضلًا عن تقليص أعداد العاملين، وانخفاض فرص الحصول على الدعم المالي اللازم، مما أسفر في نهاية المطاف عن حدوث أضرار مالية كبيرة لتلك المنظمات.

من جانبها، أعلنت منظمة “اليونسكو” أن العالم يواجه “حالة طوارئ ثقافية”، ولكن يتفاوت تأثير الجائحة وحجم الضرر الذي أحدثته من دولة لأخرى، وفقًا لقوّة القطاع، وامتلاكه للأدوات التي تخوّل له حماية جميع مؤسسات القطاع والفاعلين فيه.

ورغم عدم وجود أي إحصاءات دقيقة تخص حجم الخسائر الاقتصادية لقطاع الصناعات الثقافية والإبداعية بموجب الجائحة، فإن المؤشرات تؤكِّد أن جميع قطاعات هذه الصناعة تضررت بشدة، ولا سيَّما تلك التي تقتضي ضرورة وجود تجمعات بشرية، كالسينما، والمسرح، والحفلات الموسيقية، فضلًا عن قطاع النشر في ظل توقف معارض الكتاب المحلية والإقليمية.

وفي هذا الإطار، أشارت منظمة “اليونسكو” إلى أن قطاع السينما خسر ما يقرب من عشرة ملايين وظيفة خلال عام ٢٠٢٠، كما خفّضت المعارض الفنية عدد الموظفين بمقدار النصف، وفي حال استمرار وضع الإغلاق بقطاع الموسيقى فمن المرجَّح أن تصل الخسائر المالية إلى 10 مليارات دولار، كما أنه من المتوقَّع أن تنكمش سوق النشر العالمية بنسبة ٧,٥ %.

وتجدر الإشارة إلى أن جائحة كورونا قد أدت إلى زيادة الوعي بالأهمية الاقتصادية والاجتماعية للصناعات الإبداعية دوليَّا وإقليميَّا ومحليَّا، كما أسهمت في تضافر الجهود لوضع خطط طارئة ومستقبلية لدعم هذا القطاع الحيوي وحمايته؛ لتعظيم الاستفادة منه بعد الأزمة بكل الآليات الممكنة.

وفقًا لبنك التنمية للبلدان الأمريكية، يشير مُصطلح “الاقتصاد البرتقالي” إلى مجموعة الأنشطة الاقتصادية التي تجمع بين الموهبة والإبداع والتكنولوجيا والثقافة، مما يعني تحويل الأفكار إلى سلع وخدمات ثقافية، والتي يتم تحديد قيمتها وحماية محتواها بموجب قوانين الملكية الفكرية. ويضم الاقتصاد البرتقالي الصناعات الثقافية والإبداعية مثل الفنون والتراث الأفلام والتليفزيون والموسيقى والكتب، والأزياء والتصميم والحرف اليدوية والهندسة المعمارية والإعلان وتطوير البرمجيات، بالإَضافة إلى مجالي السياحة والرياضة.

ويُعد مصطلح “الاقتصاد البرتقالي” مُرادفًا لمصطلح “الاقتصاد الإبداعي” والذي يُطلق لوصف جميع الأنشطة المتعلقة بالصناعات الثقافية والإبداعية باعتبارها محركًا من محركات النمو الاقتصادي، مثل الهندسة المعمارية والفنون السمعية والبصرية والخدمات الرقمية والأزياء والتصميم الجرافيكي والصناعي والحرف اليدوية والموسيقى والبرمجيات.

وقد صاغ مصطلح “الاقتصاد البرتقالي” “فيليبي بويتراجو ريستريبو” و”إيفان دوكي ماركيز”، مؤلفا كتاب “الاقتصاد البرتقالي: فرصة لا حصر لها”، وقد تم إطلاق لفظ “برتقالي” على هذا النوع من الاقتصاد؛ نظرًا إلى أن اللون البرتقالي كان يعد رمزًا للثقافة والإبداع والهوية عند المصريين القدماء.

ويعد “الاقتصاد البرتقالي” أداة من أدوات التنمية الثقافية والاجتماعية، وذلك لتركيزه على عنصر الابداع، فضلًا عن أنه يهدف إلى إنتاج السلع والخدمات التي من الممكن حماية محتواها الثقافي والإبداعي من خلال حقوق الملكية الفكرية، وهو الأمر الذي يميزه عن الاقتصادات الأخرى.

ويتضح مما سبق أن الثقافة والإبداع ركيزتان أساسيتان من أجل تحقيق النمو الاقتصادي وأهداف التنمية المستدامة للاقتصادات المعاصرة في البلدان المختلفة، بالإضافة إلى أن تنمية قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية يُمثل داعمًا رئيسًا لخلق مناخ مُلائم للعمل من أجل الإبداع والابتكار.

الدكتور/ شاكر عبد الحميد
وزير الثقافة الأسبق
الصناعات الثقافية والإبداعية: رؤية مستقبلية

الصناعات الثقافية والإبداعية أحد المحركات الكبرى للاقتصاد في الدول المتقدمة والنامية، وهي من أسرع قطاعات الاقتصاد نموًا في العالم، وهو قطاع يؤثر على زيادة الدخل، وخلق الوظائف، وجلب المكاسب، ويمكن أن يحقق مستقبلًا أفضل للعديد من الأقطار عبر العالم، ووفقًا لما قالته «إيرينا بوكوفا »، المديرة العامة السابقة لليونسكو، فإن ذلك كله من شأنه أن يطلق ويحرر الإمكانات الخاصة بالصناعات الثقافية والإبداعية كلها، ويعني أيضًا تعزيز الإبداع الكلي الخاص بالمجتمعات، والتأكيد كذلك على الهويات المتمايزة للأماكن التي تزدهر فيها، وتحسين نوعية الحياة، وتوفير الموارد المطلوبة للحاضر والمستقبل. وهكذا فإنه بالإضافة إلى فوائدها الاقتصادية، توفر الصناعات الثقافية والإبداعية، أو تؤكد، قيمًا غير مالية الطابع تسهم بدورها في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة التي تقوم على أساس الأفراد والشعوب.

الدكتور/ إسماعيل سراج الدين
مدير مكتبة الاسكندرية السابق
الألعاب الإلكترونية والصناعات الثقافية في القرن الحادي والعشرين

الإنسان صانع الثقافة…

هذه حقيقة تؤكدها مسيرة الإنسان الثقافية على مر العصور، وفي الوقت نفسه تشير هذه الحقيقة إلى أن الإنسان يتفاعل مع الثقافة التي يصنعها؛ فالثقافة هي التي تحدد ماهية الشعوب، وهي المسؤولة عن تكوين تلك الأبعاد المحددة للهوية وتطورها، وهي التي تؤسس الصلات بين الأفراد والجماعات داخل المجتمعات، وتشكّل التعبيرات الثقافية للرأي العام، وتحدد الأولويات الجمعية للمجتمعات والدول، من الفكر الأحادي إلى قبول التعددية.

وفي عالمنا الحديث رأينا ما يمكن تسميته بـ «الصناعات الثقافية » تلعب دورًا كبيرًا في تطوير رؤية الناس للذات والآخر، سواء كان ذلك سلبًا أو إيجابًا.

في البداية، لا يمكن الحديث عن هذه الصناعات الثقافية دون الإشارة إلى الفلكلور أو الثقافة الشعبية وتعبيراتها، وما نعاصره من الاحتفالات الدينية أو الشعبية، وما تؤكده من أواصر بين الناس، عن طريق المشاركة في طقوسها وتعبيراتها المختلفة، بالإضافة إلى الحكمة التي نجدها في الأمثال الشعبية وغيرها من التعبيرات، من الزجل إلى بعض الأغاني التي توارثتها الأجيال.

ويمكننا القول إنه بعد انطلاق الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تأثرت الصناعات الثقافية بصورة لافتة، فبعد أن كان المسرح هو أهم أنواع الصناعات الثقافية التي تحتاج إلى تمويل وتقنيات عالية نسبيًّا، وتعتمد على مشاركة الجمهور في المنتج الثقافي، عاصرنا في القرنين التاسع عشر والعشرين ظهور صناعات ثقافية متنوعة، مثل صحافة الرأي والراديو والسينما والتلفزيون، وبدأ تكوين تنظيمات خاصة لأسواقها، وتدشين شركات خاصة بإنتاج هذه الصناعات وتطويرها.

1- الصين

حرصت الصين على إظهار الاهتمام بالصناعات الثقافية والإبداعية من خلال الخطة الخمسية العاشرة (2005-2001)، حيث تم التأكيد على هيمنة الأنشطة الإبداعية المملوكة للدولة على غيرها من الأنشطة والصناعات الثقافية، ثم بدأ الترحيب بدخول رأس المال الخاص لتطوير البنية التحتية الخاصة بالصناعات الثقافية في الخطة الخمسية الحادية عشرة (2006- 2010).

ولاحقًا رأت بكين أن هناك رابطًا قويًا بين الصناعات الثقافية والإبداعية وبين إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية داخل الدولة، ولذلك سعت في الخطة الخمسية الثانية عشرة (2011- 2015) لتحقيق هدف تطوير الصناعات الصينية الثقافية حتى تكون قادرة على الدخول في سباق التنافس العالمي، وفي ضوء ذلك عمدت إلى تعزيز البنية التحتية الخاصة بالصناعات الثقافية عبر دعم المشروعات الثقافية الرائدة الصغيرة والمتوسطة.

هذا، وقد ساهم التطور التكنولوجي في إحداث نقلة نوعية في المحتوى الثقافي والإبداعي المُقدّم، فضلًا عن أن إصلاح الشركات العامة المملوكة للدولة والعاملة في مجال الصناعات الثقافية والإبداعية، إضافة إلى السماح بدخول الشركات الأجنبية، قد ساعد على زيادة انتعاش الصناعات الثقافية؛ إذ تضاعفت الصناعة الثقافية الصينية 60 مرة خلال العقد الماضي، حتى باتت تمثل 4% من الناتج المحلي الإجمالي.

فضلًا عما سبق فقد ركَّزت الصين على حماية وتعزيز قوانين الملكية الفكرية؛ للحفاظ على الأرباح الناجمة من تلك الصناعة، كما توجهت للاستثمار في تطوير المتاحف، والحدائق التاريخية، والمواقع التاريخية، وقد استمرت الصين في تطبيق تلك السياسات خلال الخطط الخمسية التالية، مما ساهم في حدوث تقدم كبير على مستوى الصناعات الثقافية الصينية.

2- كوريا الجنوبية

تحتل كوريا الجنوبية تحتل مكانة بارزة في الصناعات الثقافية والإبداعية على مستوى العالم، وتقوم التجربة الكورية الجنوبية على التعاون بين القطاعين العام والخاص لتطوير الصناعات الثقافية والإبداعية، انطلاقًا من إدراكها لأهمية تلك الصناعات في تعزيز الاقتصاد الوطني.

وفي عام 1994 قامت بتخصيص 1% من الناتج المحلي الإجمالي لدعم الصناعات الثقافية، فضلًا عن قيامها بإنشاء قسم صناعة الثقافة في وزارة الثقافة. وفي عام 1999، عمدت إلى ضبط الحوافز الضريبية والقوانين المتعلقة بالصناعات الثقافية، كما عملت كوريا الجنوبية على تمويل الصناديق الثقافية الخاصة بتسويق وبيع المنتجات الإبداعية والثقافية لكوريا الجنوبية خارج آسيا.

هذا، وقد استغلت كوريا الجنوبية النجاح الساحق لأغنية “Gangnam Style” للفنان الكوري Psy على مستوى العالم، فعملت على زيادة تمويل الحفلات الغنائية للفرق الكورية خارج آسيا، وزيادة ميزانية قسم الصناعات الثقافية على مدار السنوات الماضية، فبعدما كانت تمثل 54 مليار وون كوري جنوبي في عام 1994، بلغت 249 مليار وون كوري جنوبي في عام 2012، هذا وقد بلغ فارق الزيادة في الميزانية الخاصة بقسم الصناعات الثقافية بين عامي 2019 و2020 نحو 9,4%.

جدير بالذكر أن كوريا الجنوبية قد اهتمت بالتسويق لمنتجاتها الثقافية وتطويرها حتى تكون قادرة على منافسة الأسواق الخارجية، ولعل هذا ما ساهم في فوز العديد من الصناعات الكورية الإبداعية مثل الأفلام بجوائز عالمية، وبات هناك اهتمام عالمي كبير بالثقافة الكورية.

في عام 2005 احتلت كوريا الجنوبية المرتبة الــــ 33 على مستوى العالم، من حيث الإيرادات الخاصة بالموسيقى المسجلة، إلا أنه عقب زيادة الاهتمام بتطوير القطاع الموسيقي، وصلت كوريا الجنوبية إلى المركز العاشر على مستوى العالم في عام 2013. كذلك ففي العام ذاته، مثّلت الدراما الكورية الجنوبية نحو 82% من إجمالي الصادرات الثقافية الكورية الجنوبية لمختلف دول العالم، وهو ما يعد دليلًا على نجاحها في تطوير الصناعات الثقافية والإبداعية.

القطاعات الثقافية الإبداعية في أوروبا بعد أزمة كوفيد-19

أثّرت جائحة كورونا على القطاعات الثقافية والإبداعية بشكل عام في ظل ما فرضته الأزمة من قيود مرتبطة بالإغلاق ومنع التجمعات وتنظيم الفعاليات، وفى هذا السياق سعت دراسة كل من “إيزابيل دي فولدير”Isabelle De Voldere) )، و”مارتينا فرايولي” Martina Fraioli))، بعنوان “القطاعات الثقافية الإبداعية في أوروبا بعد أزمة كوفيد-19” لمناقشة آثار الأزمة ومظاهرها التي تجلَّت في عدد من القطاعات، منها: الفنون التمثيلية والمسرحية، والموسيقى، والفنون التشكيلية والحرف اليدوية، والتراث الثقافي، والسينما والإذاعة والتليفزيون، وفن النشر وصناعة الكتب، والألعاب والرسوم المتحركة.

إذ أشارت الدراسة إلى أن الفنون الأدائية كانت من أكثر القطاعات تضرُّرًا؛ حيث أدى توقف الأنشطة وإلغاء أو تأجيل الفعاليات والعروض والمهرجانات إلى تراجع مبيعات التذاكر، وحجم الإعلانات، كما تأثرت الفنون التشكيلية والحرف اليدوية؛ حيث أغلقت المتاحف ودور المزادات أبوابها في العديد من البلدان الأوروبية، كما تم إلغاء المعارض الفنية أو تأجيلها.

كذلك كان لأزمة كورونا تأثير قوي على قطاع التراث الثقافي؛ وذلك بسبب إغلاق المتاحف، والمواقع التراثية، مما أثّر على السياحة، التي تعد المصدر الأول للدخل في قطاع التراث الثقافي.

كما تأثرت صناعة السينما بالأزمة؛ حيث توقف إنتاج وتصوير الأفلام، وتم إلغاء أو تأجيل إقامة المهرجانات السينمائية الأوروبية والدولية، والتي تعد أسواقًا مهمة لصناعة السينما، على الجانب الآخر أشارت الدراسة إلى استحواذ منصات مثل: Netflix ، Prime Video ، Amazon على حصة كبرى من السوق، لتشهد ارتفاعًا كبيرًا في عدد الاشتراكات، وفيما يتعلق بقطاع الإذاعة والتليفزيون، توقفت الاستثمارات الإعلانية، ولكن من ناحية أخرى، سجّلت الإذاعة زيادة في عدد المستمعين في ألمانيا بنسبة 34٪، وفي إيطاليا 18.5٪.

وبالنسبة لقطاع نشر الكتب، فقد أغلقت المكتبات أبوابها في معظم دول الاتحاد الأوروبي، كما أُجبرت المكتبات في أكبر أربع أسواق للكتب في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا على الإغلاق، وتم إلغاء أو تأجيل إقامة المعارض، كما تأخرت معظم دور النشر الكبرى عن دفع أجور الكتاب والمترجمين، وقد دفعت الأزمة معظم الدول إلى اللجوء إلى المكتبات الإلكترونية؛ حيث قدَّمت دور النشر الكتب الإلكترونية، والمواد الرقمية للمكتبات، ولكن من ناحية أخرى، زادت معدلات قرصنة الكتب الإلكترونية.

كذلك أشارت الدراسة إلى الزيادة الاستثنائية في تنزيل الألعاب الإلكترونية خلال فترة الإغلاق، كتنزيل ألعاب الفيديو على الهواتف المحمولة، وأجهزة الكمبيوتر، ومن المرجَّح أن تسهم صناعة الألعاب الإلكترونية بدور كبير في زيادة دخل الصناعات الثقافية خلال السنوات القادمة؛ نظرًا لطبيعتها المرنة والديناميكية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى