من الورق إلى العالم: بناء معهد علمي يكتب سيرته على جداران التاريخ عندما يتنفس الحجر علمًا

بقلم : إيهاب محمد زايد
ليست المباني هي التي تخلق الجامعات العظيمة، ولا الأجهزة هي التي تصنع المراكز البحثية المرموقة. إنما الأفكار التي تحتضنها الجدران، والعقول التي تتجول في الممرات، والأبحاث التي تنتقل من مختبر محلي إلى محافل عالمية. إن بناء سمعة دولية لمعهد علمي ليس مشروعًا إداريًا فحسب، بل هو رحلة تحول وجودي – تحول من الاستهلاك إلى الإنتاج الفكري، من التلقي إلى الإضافة، من المحلية إلى العالمية.
في عصر تتصارع فيه الأمم على العقول قبل الأراضي، وعلى براءات الاختراع قبل الموارد الطبيعية، تصبح المؤسسات البحثية هي الحصن الاستراتيجي والأمل التنموي. إن معهدًا علميًا بسمعة عالمية ليس كيانًا أكاديميًا فحسب، بل هو سفارة معرفة، وقلعة اقتصادية، ومنارة حضارية تعلن أن هذه الأمة ما زالت تشارك في كتابة سفر التقدم البشري.
التميز البحثي – ليس مجرد أبحاث، بل بصمات على جبين العلم
1. الاختيار الاستراتيجي: أن تكون سيد حرفة في زمن الهاويين
لا تُبنى السمعة بالتمدد الأفقي السطوح، بل بالتعمق الرأسي الجريح. يجب على المعهد أن يختار ثلاثة أو أربعة مجالات بحثية تكون فيها له ميزة تنافسية حقيقية. هل هي الذكاء الاصطناعي في التشخيص الطبي؟ تكنولوجيا المياه في المناطق الجافة؟ الطاقة المتجددة بتكلفة مقبولة؟ يجب أن يكون الاختيار استجابة لتحدٍ عالمي، وامتلاكًا لميزة محلية، ورؤيةً لمستقبل العلوم.
كيف؟ عقد “مجلس حكماء” من العلماء الدوليين لتحديد هذه المجالات. ليست العبرة بما هو شائع، بل بما يمكن أن نتفرد فيه. معهد “سفالبارد العالمي للبذور” في النرويج لم يصبح أسطوريًا لأنه جمع بذورًا، بل لأنه اختار مهمة إنقاذ التنوع الوراثي للبشرية جمعاء.
2. النشر في قمم المجلات: الحضور في بلاط العلم الملكي
النشر في مجلات Q1 ليس غاية أكاديمية جافة، بل هو إعلان وجود. كل بحث في “نيتشر” أو “ساينس” هو نداء يصل إلى 50 ألف عالِم في أنحاء العالم: “ها نحن هنا، ولدينا ما نقوله”. يجب أن يكون للمعهد خطة نشر دولية قوية لكنها أنيقة: تشجيع البحث عالي التأثير عبر حوافز مالية ومعنوية.إنشاء وحدة دعم متكاملة للكتابة العلمية والمراجعة والتحكيم. ربط الترقيات والتمييز الوظيفي بعدد ونوعية الأبحاث المنشورة. وعلينا أن نتذكر بأن العالم لا يرى معهدك من خلال مبانيه، بل من خلال أبحاثه المنشورة. الورقة البحثية هي جواز السفر إلى المجتمع العلمي الدولي.
3. المؤتمرات الدولية: مسرح الظهور وملتقى العقول
المؤتمرات ليست مجرد “سفر وسياحة أكاديمية”، بل هي سوق عالمية للأفكار، ومقابلات عمل للتعاون، وعروض قدرات. يجب أن يكون لكل باحث في المعهد فرصة الظهور في مؤتمر دولي مرة على الأقل كل سنتين. ولكن ليس الحضور فحسب، بل المشاركة الفاعلة: أوراق بحثية، جلسات رئيسية، ورش عمل، وحتى تنظيم جلسات خاصة بالمعهد. وهناك رؤية أوسع: لماذا لا ينظم المعهد مؤتمرًا دوليًا خاصًا به في مجال تخصصه؟ المؤتمر السنوي لمعهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا” في مجال الذكاء الاصطناعي أصبح حدثًا عالميًا ينتظره آلاف العلماء. لكنه يشترط التمويل لذا لابد من ربط الإنتاج العلمي برؤوس الأموال وعالم الصناعة والصناعات الزراعية والغرف التجارية والسياحات العلمية
4. جذب النجوم البحثية: حين يصبح المعهد مغناطيسًا للعبقرية
العلماء الكبار لا يجذبهم الراتب فحسب، بل البيئة التي تسمح لهم بالتحليق. يجب تصميم “برنامج الزمالات الدولية” لجذب الباحثين من مؤسسات مرموقة. لكن الأهم هو خلق بيئة تليق بهم من خلال: حرية بحثية حقيقية. موارد مالية وتقنية غير مقيدة. فريق دعم إداري يحررهم من البيروقراطية. مجتمع علمي حيوي يناقش وينقد وينتج. هناك العديد من القصص لكن القصة الأكثر الملهمة: معهد “برود” في الولايات المتحدة لم يصبح قائدًا في مجال الجينوم من فراغ، بل لأنه استطاع جذب علماء من “هارفارد” و معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ” وأعطاهم ما لا يجده الآخرون: حرية استثنائية وموارد غير محدودة. تذكرة أخيرة:عندما تسمع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لا تفكر في مباني ولا أسماء، بل فكر في سؤال جريء طُرح في قاعة محاضراته عام 1962:”لماذا لا نصنع حاسوبًا شخصيًا؟” من هذا السؤال ولدت ثورة المعلومات. معاهدنا تحتاج إلى جرأة طرح الأسئلة التي ستولد ثوراتنا نحن.
الشراكات الدولية – ليست اتفاقيات ورقية، بل زواج مصالح علمي
1. اختيار الشريك: ليس الأكبر بل الأنسب
ليست كل المؤسسة العالمية مناسبة للشراكة. يجب البحث عن الشريك الذي: يكمل نقاط ضعف المعهد. يشاركه اهتمامات بحثية استراتيجية. يمكن أن تكون الشراكة نواة لعلاقة طويلة الأمد. وعلينا أن يكون لدينا خطة عملية: البدء بشراكات محدودة (مشروع بحثي واحد)، ثم التوسع إلى برامج مشتركة، ثم التطور إلى تحالفات استراتيجية. شراكة معهد “كاوست” السعودي مع “أوكريدج” الأمريكية بدأت بمشروع صغير وانتهت بإنشاء مركز بحثي مشترك.
2. برامج التبادل: تدفق حيوي للعقول والأفكار
برنامج تبادل الباحثين ليس مجرد “إيفاد”، بل هو: للباحث الصغير: فرصة للتعلم في أفضل المختبرات. للباحث الكبير: فرصة للتعاون مع نظرائه. للطالب: فرصة للدراسة في بيئات مختلفة. نموذج مبدع: برنامج “زمالات نيوتن” البريطاني لا يكتفي بإرسال الباحثين، بل يشترط عودتهم لنقل المعرفة، مما يخلق تأثيرًا مضاعفًا.
3. المشاريع المشتركة: حين يصبح العلم لغة مشتركة
المشروع البحثي المشترك هو التجسيد العملي للشراكة. يجب أن يكون: ذا تمويل مشترك حقيقي (ليس من طرف واحد). و له أهداف واضحة قابلة للقياس. ينتج ملكية فكرية مشتركة. وينشر نتائجه في مجلات مرموقة. إن التحدي والإجابة: كيف تجذب شركاء أجانب؟ بالتميز في مجال محدد. المعهد المصري للأورام استطاع جذب شراكة مع “معهد ميموريال سلون كيترينج” لأنه طور كفاءة نادرة في علاج أورام الكبد.
الحوكمة والبنية – الهيكل العظمي القوي للجسد العلمي الحي
1. المختبرات: ورشة العقل البشري
المختبر ليس غرفة بها أجهزة، بل هو ورشة تصنع المستقبل. المعايير: الأجهزة على مستوى عالمي (ليست بالضرورة الأحدث، بل الأنسب). نظام صيانة استباقي (ليس انتظار العطل). سلامة وأمن بيولوجي وكيميائي. مرونة تسمح بإعادة التشكيل حسب المشاريع. ويجب أن يكون هناك رؤية أوسع: لماذا لا يكون للمعهد “مختبر وطني” مفتوح للباحثين من جامعات أخرى؟ هذه الإستراتيجية نقلت معهد “ماكس بلانك” من محلية إلى وطنية إلى عالمية. وعلينا أن نسأل الأن كم عدد المعامل في الجامعات والمراكز البحثية له شهادة ال أيزو. حين تُمسك المعملُ المصريّ بأهداب الأيزو، لا يرفع شهادةً على حائط، بل يُقلّمُ أجنحةً ليحلّقَ فوق خرائط الاقتصاد العالميّ.
فهذه المواصفاتُ ليست حروفًا ورقية، بل هي لغةٌ عالميةٌ تُترجَمُ بها دقّةُ النتائج إلى عملةٍ صعبة، وتتحوّلُ قطرةُ عيّنةٍ إلى نهرٍ من الفرص.
في مصر، نحو 20% من معامل الجامعات تنطقُ بهذه اللغة، تكتبُ بها سنداتِ ثقةٍ تقبضُ عليها الأسواقُ البعيدة. كلّ معملٍ معتمدٍ يُولَدُ من جديد: عيناه ترى أبعدَ من الحدود، ويداه توقّعان عقودًا ذهبيةً، وقلبه ينبضُ بإيقاع الاقتصاد الوطنيّ. هذا الاعتمادُ لا يصنعُ جدرانَ عِزْلٍ، بل يبني جسورًا. جسورٌ تنقلُ العيناتِ المحليةَ إلى مختبراتِ الكون، وتَعودُ محمّلةً بالاستثماراتِ والشراكاتِ وهمساتِ التصدير التي تعلو إلى مليارات الجنيهات. فالأيزو ليس طابعًا على وثيقة، بل هو بوصلةُ الجودة التي تُعيدُ رسمَ خريطةِ مصرَ العلمية، لتكونَ القلبَ النابضَ في صدرِ اقتصادِ المعرفة.
2. الحوكمة: حين تصبح الشفافية ثقافة والكفاءة عادة
النظام الإداري في المعهد البحثي يجب أن يكون: مساندًا لا معيقًا. سريعًا لا بيروقراطيًا. واضحًا لا غامضًا. محفزًا لا رقابيًا فقط. إن هناك نموذج متميز: نظام “الهيئة المستقلة” الذي طبقته بعض المعاهد في سنغافورة، حيث يتمتع المعهد باستقلالية مالية وإدارية كبيرة، مما يحرره من قيود الجهات الأم.
3. المجلس الاستشاري الدولي: العيون العالمية على المسيرة المحلية
ليس مجرد قائمة أسماء، بل: مجموعة من العلماء العالميين الذين يجتمعون دوريًا. يقدمون تقييمًا صادقًا لأداء المعهد. يفتحون أبواب تعاون دولية. يساعدون في اجتذاب الكفاءات. إن قصة النجاح: معهد “إي بي إف إل” في سويسرا جعل مجلسه الاستشاري سلطة حقيقية في تعيين المديرين وتقييم البرامج، مما ضمن استمرارية التميز.
البرامج التعليمية – لا نستهلك المعرفة فقط، بل نصنع العقول التي تنتجها
1. البرامج الدولية: عندما يصبح المعهد وجهة تعليمية
البرامج التدريبية القصيرة والطويلة يجب أن: تقدم قيمة مضافة حقيقية لا توجد في بلدان المتدربين. تجمع بين النظرية والتطبيق. تخلق شبكة من الخريجين المخلصين للمعهد. تكون بلغات متعددة. هناك نموذج ملهم: برامج المعهد العالي للدراسات الدولية في جنيف تجذب دبلوماسيين من العالم كله ليس لمحتواها فقط، بل للشبكة العلاقات التي يبنونها.
2. حاضنة الأعمال: عندما تتحول الأبحاث إلى ثروات
الحاضنة ليست مكتبًا للإيجار، بل: نظام دعم متكامل من الفكرة إلى السوق. اتصال مع مستثمرين ومصنعين. حماية للملكية الفكرية. تدريب على ريادة الأعمال. إن قصة التحول: حاضنة “وايزمان” في إسرائيل ساعدت في تحويل 300 بحث إلى شركات ناشئة، بمبيعات تتجاوز 30 مليار دولار.
3. المؤتمرات والورش: صناعة الحدث العلمي
ليس مجرد لقاءات، بل: منصات لعرض إنجازات المعهد. فرص للتعاون غير الرسمي. مصادر دخل ذاتي. أدوات لبناء السمعة. ومثل التميز في التنظيم: مؤتمر “معهد الجزيرة” للإعلام في قطر لم يصبح مرجعيًا لأنه الأقدم، بل لأنه الأكثر احترافية وتنظيمًا.
التواجد الإعلامي – ليس الدعاية، بل الحضور الفاعل في الخريطة المعرفية العالمية
1. الهوية البصرية: الوجه الذي يتذكره العالم
الموقع الإلكتروني هو الواجهة العالمية الدائمة. مواصفاته: متعدد اللغات (الإنجليزية ضرورة، ولغة محلية، ولغة ثالثة حسب التخصص). تحديث يومي بالمحتوى العلمي. سهل التصفح والاستخدام. يتوافق مع محركات البحث العالمية. ما وراء الموقع: الهوية البصرية الموحدة (شعار، ألوان، خطوط) على جميع المنشورات والمباني والمعدات.
2. المحتوى العلمي: حين يتحدث المعهد بلغة العصر
ليس تقارير جافة، بل: فيديوهات قصيرة تشرح الاكتشافات. إنفوجرافيك يلخص الأبحاث. مدونة علمية بلغة مبسطة. نشرات دورية بالانجليزية ترسل لعشرة آلاف باحث عالمي. هناك القياس للمحتوي العلمي: عدد مرات الاقتباس في الإعلام العالمي (BBC Science، Nature News، Scientific American).
3. العلاقات مع الإعلام العلمي: الصحفي كحليف
ليس مجرد إرسال بيانات، بل: تدعيم الصحفيين العلميين لحضور المؤتمرات. توفير خبراء للتعليق على القضايا العلمية. تنظيم زيارات ميدانية للإعلام العالمي. والقيمة المضافة للمعهد العلمي : عندما يصبح الباحثون في المعهد مصدرًا معتمدًا للإعلام العالمي، تكون السمعة قد بنيت.
4. المنصات العالمية: الحضور في ساحات التقييم
Nature Index: قياس الإنتاج البحثي. THE Impact Rankings: قياس التأثير المجتمعي. Scopus و Web of Science: قياس الاستشهادات. ويجب أن تكون الاستراتيجية: لا تنتظر التقييم، بل استعد له ببناء إنجازات حقيقية.
الإدارة المالية – ليست أرقامًا في دفاتر، بل وقودًا للطموح العلمي
1. تنويع المصادر: لا تضع كل بيضك في سلة واحدة
التمويل الحكومي (لا غنى عنه، لكنه لا يكفي). المنح الدولية (تزيد السمعة كما تزيد المال). عقود القطاع الخاص (ربط البحث بالصناعة). التبرعات (خاصة من الخريجين الناجحين). والفلسفة الجديدة: المعهد ليس جهة إنفاق، بل هو استثمار. كل دولار ينفق على البحث يمكن أن يعود بعشرة دولارات قيمة مضافة.
2. مكتب المنح: صياغة الأحلام البحثية بلغة الممولين
ليس مكتبًا بيروقراطيًا، بل: فريق من الكتاب المحترفين الذين يترجمون الأفكار إلى مقترحات جذابة. قاعدة بيانات للمنح الدولية ومواعيدها. تدريب الباحثين على كتابة المقترحات. متابعة ما بعد الفوز بالمنحة. والسر: الفوز بالمنح الدولية ليس مهارة كتابية فقط، بل هو فهم لثقافة الممول وأولوياته.
3. إدارة المشاريع: من الفكرة إلى التنفيذ إلى الاستدامة
نظام إلكتروني لمتابعة المشاريع. مؤشرات أداء واضحة. مراجعات دورية. خطط استدامة لكل مشروع. الحكمة: المشروع الناجح ليس الذي ينتهي بتقرير، بل الذي يتحول إلى برنامج دائم أو شركة ناشئة أو سياسة عامة. بين شموع المختبرات وأنظمة الضوء: مصر تبني ذاكرتها العلمية الرقمية
في حرم المعاهد المصرية، حيث تتراقص ظلالُ الماضي مع أنوار الحاضر، تنبضُ شرايينٌ إلكترونيةٌ تُعيدُ تشكيلَ مفهوم البحث العلمي. ليس النظامُ الإلكتروني لمتابعة المشاريع مجردَ برنامج، بل هو السِّجلُ الرقميُّ للعقل المصري وهو يخترقُ المجهول، والضميرُ الذي يحفظُ نبضَ كلّ تجربة، وعرقَ كلّ باحث.
نحو 20% من معامل جامعاتنا تنطقُ بلغة الجودة العالمية، بينما تُعِدُّ الأنظمةُ الإلكترونيةُ بيئةً تستوعبُ هذا التحول. إنها ليست أدواتٍ ماديةً فحسب، بل فلسفةٌ جديدة: فالمشروعُ الناجحُ لا يموتُ بانتهاء تمويله، بل يتحولُ إلى شركةٍ ناشئةٍ أو سياسةٍ عامة أو برنامجٍ دائم.
تُقاسُ هذه التحولاتُ عبر مؤشراتٍ أدائيةٍ دقيقة – منها كميةٌ كعدد الأوراق المنشورة في مجلات Q1، ومنها نوعيةٌ كتأثير البحث على الاقتصاد الوطني. فكلُّ بحثٍ في الطاقة المتجددة لا يبقى حبيسَ الورق، بل يتحولُ إلى مشروعٍ يضيفُ مليارات الجنيهات للناتج المحلي، ويوفرُ آلافَ الوظائف.
تُراجعُ هذه المسيرةُ كلَّ ثلاثة أشهر في حوارٍ خلّاق بين الماضي والمستقبل. فهي استمرارٌ لحكمةٍ مصريةٍ أصيلة: القيمةُ ليست في الانتهاء، بل في التحول، تمامًا كما تحولت معرفةُ الأجداد في الزراعة والهندسة إلى حضارةٍ خالدة.
اليوم، تبنى مصرُ ذاكرتها العلميةَ الجديدة عبر هذه الأنظمة، لِتضمنَ أن كلَّ قطرةِ عرقٍ بحثيٍّ ستتحولُ إلى نهرٍ من الإنجازات، وأن كلَّ معهدٍ علميٍّ سيكونُ رحمًا تلدُ منه شركاتُ المستقبل، وسياساتُ التنمية، وأملُ الأمة.
المجتمع العلمي – ليس موظفين وباحثين، بل عائلة فكرية تنتمي إلى رسالة
1. ثقافة العمل: النزاهة كأساس، والتميز كهدف
مدونة أخلاقية واضحة. نظام تحكيم داخلي عادل. تشجيع العمل الجماعي Team Science . احترام حقوق الملكية الفكرية. العمق: السمعة لا تُبنى بالإنجازات فقط، بل بالأسلوب. فضيحة أخلاقية واحدة يمكن أن تدمر سمعة بنيت على مدى عقود.
2. شبكة الخريجين: السفراء غير الرسميين
قاعدة بيانات تفاعلية للخريجين. لقاءات دورية (حضورية وافتراضية). إشراكهم في المجلس الاستشاري. توفير فرص تعاون مع المعهد. القوة الخفيفة: خريج راضٍ في منصب مهم في منظمة دولية قد يفتح أبوابًا لا تفتحها مئات الرسائل الرسمية.
3. البيئة الأكاديمية: من التنافس إلى الإبداع
مساحات للتقاء غير الرسمي. حلقات نقاش أسبوعية. مكتبة غنية رقميًا وورقيًا. دعم نفسي ومهني للباحثين. ويكون العمل البحثي له الفلسفة: العقول المبدعة تحتاج إلى حرية، والأفكار العظيمة تولد في بيئات محفزة، لا في مكاتب مغلقة. ليست نهاية، بل بداية الرحلة
أيها القادة، أيها المسؤولون، أيها العلماء: بناء السمعة الدولية للمعهد العلمي ليس مشروعًا خماسيًا أو عشرىًا، بل هو مسيرة حضارية. إنه قرار بأن نشارك في كتابة مستقبل البشرية، لا أن نكون مجرد قراء له. إنه تحول من السؤال “ماذا نستطيع أن نقدم لمجتمعنا؟” إلى السؤال الأعمق: “ماذا نستطيع أن نقدم للإنسانية جمعاء؟”.
إن المعهد ذو السمعة العالمية ليس مكانًا فحسب، بل هو فكرة تجسدت في حجر، وروح تسكن المختبرات، وإرادة ترفض أن تكون في هامش الخريطة العلمية. اليوم، وأنتم تقرأون هذه الكلمات، فإن الخيار بين يديكم: إما أن تبقوا مؤسسة محلية تحل مشكلات محلية، أو تصيروا منارة عالمية تساهم في حل إشكاليات البشرية. الطريق طويل، والعقبات كثيرة، ولكن التاريخ لا يذكر الذين ساروا في الطرق الممهدة، بل يذكر الذين شقوا طرقًا جديدة. فلنبدأ الرحلة. ليس غدًا، بل اليوم. ليس بخطة على ورق، بل بإرادة تحول الحلم إلى واقع، والواقع إلى إرث.
من حُجُرَات المختبرات إلى قاعات النموّ.. حكاية مصر التي تعيد كتابة نفسها
والآن، وقد أطبَقَ الليلُ على المدينة، تظلُّ نوافذُ المعهد مضيئةً. ليست تلك الأضواء سوى قلب مصر النابض، ينبضُ بإيقاعِ آلاتٍ دقيقة، وهمساتِ باحثين، وخريرِ بياناتٍ تنسابُ في شرايين الأنظمة الإلكترونية. هنا، في هذا المكان، تُختمُ حكاية، وتُولَدُ أسطورة.
لأن المعجزةَ لن تكونَ في حجرٍ يُلقى، بل في عقلٍ يُحرَّر، وبيئةٍ تُحفَّز، وشراكةٍ تُبنى. وهذا ما تفعلهُ مصرُ الآن: فهي لا تبنى أبراجاً فحسب، بل تزرعُ غاباتٍ من العقول. وكلُّ ورقةِ بحثٍ تنشرها في “نيتشر” هي بذرةُ شجرةٍ اقتصادية ستعطي ثماراً بعد سنوات.
وتأثير الأرقام: من المختبر إلى واقع المجتمع
فاقتصادياً: كلُّ جنيهٍ يُستثمر في البحث والتطوير في معهد معتمدٍ سيعودُ بخمسة أضعافه إلى الاقتصاد القومي. إنها رياضياتُ العِلم الحقيقية. و اجتماعياً: كلُّ مشروع بحثي ناجح يتحول إلى شركةٍ ناشئةٍ سيخلقُ عشرات الوظائف، ويحلُّ إشكاليةً مجتمعية، ويُعيدُ الأملَ لمن فقدوه. وصحياً: كلُّ ورقة طبية منشورة من معاملنا المعتمدة هي خطوةٌ نحو خفضِ تكاليف العلاج، وسنواتٌ تُضافُ إلى أعمار أبنائنا، وثقةٌ تُسترجعُ في منظومتنا الصحية. تعليمياً: كلُّ باحثٍ عائدٍ من زمالة دولية هو نبعٌ من المعرفة سيروي عقولَ مئات الطلاب، وسيغيّرُ مناهجَ كانت جامدة، وسيبثُّ روحَ التساؤلِ في قلوبِ من يأتون بعده. صناعياً: كلُّ براءة اختراع مسجلةٍ دولياً هي مفتاحٌ لأسواقٍ كنا نطمعُ فيها، ونقطةُ انطلاقٍ لصناعاتٍ وطنيةٍ تعتمدُ على عقولنا وخاماتنا.
إنها ليست أمنيات، بل صيغ رياضيةٌ للحضارة. فمصر التي علمتِ العالمَ حسابَ النجوم وقياسَ النيل، تعودُ اليومَ لتعلمه قياسَ أثرِ العقلِ على الحجر. لقد انتصر أجدادُنا على تحدياتِ عصرهم بالعِلم المنظم، ونحن ورثنا التحدياتِ وورثنا العِقلَ معاً.
فليستمرْ ضوءُ المعهدِ في الليل. فذلك الضوءُ هو فجرٌ قادم لمصر جديدة، تُقاسُ فيها القوةُ بعددِ المختبرات المعتمدة، والثروةُ بعددِ براءات الاختراع، والعظمةُ بقدرتنا على تحويلِ حُجُراتِ البحثِ إلى محركاتٍ للتنمية. هذه هي المعادلة المصرية الخالدة: عقلٌ حرٌ في وطنٍ أصيل، يكتبُ مستقبلاً يكونُ فيه العلمُ لغةَ القوة، والمعرفةُ طريقَ المجد.
خاتمة شعرية:
عِلمٌ يضيءُ بِأَفقِ العالَمينَ شُموسا
ومعهدٌ يصنعُ التاريخَ فكرًا وجرُوسا
باحثٌ يصولُ بِميدانِ المعرفةِ فارسًا
وعقولُنا تُعلنُ الدنيا بأن لنا رَوسا
فَشمِّرُوا فالمجدُ يُنْتزعُ انتزاعًا
والعِزَّةُ العِلميَّةُ تُبنى اشتياقًا
هَيَّا نُنَاطِحُ بِالفكرِ الجِبالَ ونرتقي
ونجعلُ الدُّنيا تُرَدِّدُ اسْمَنا إشْفاقًا
السماءُ ليست حدًّا لِطموحِ عالمٍ
والأرضُ تُزهو بِمعهدٍ يزينُها علمًا
فَامْضُوا ولا تلتفتوا، تاريخُنا ينتظرُ
صفحاتِ مجدٍ نَخطُّها عزمًا وَنَقسِمُها قسمًا



