نوبة فراق

نوبة فراق
أنت من بدأ البعاد حين تجاهلتني
في زوايا القلب، طيفك لم يزل يُنازعني
أمواج النيل تذكرني بلحظاتنا،
وفي عيونك لِتسبيح الماء يُغني.
يا زهرة النيل، حكاية نظرتك ساحرة،
تكتب لي في سماء الليل قصائد تعانقني،
تحت ضوء القمر سحرك يمسح آلامي،
وأطياف الأحلام الشائبة تلهبني.
نسيم الفجر يحمل آهات الحزن،
كالأقمار تهاجر فوق سطوح الأجداد،
وأنا بين الذكريات أُطفئ نار الأشواق،
كلهبٍ أمام مرآة، يرد الروح للعتاد.
يا شاطئ الأحلام، أين ضحكات الأصحاب؟
أين سمر الليل تحت شجرة التوت بالباد؟
أسير في الطرقات، قلبي مضيء لكن حزين،
أدوِّن أحلام الفراق في تواريخ البلاد.
أنت من بدأ البعاد حين تجاهلتني،
وكلما ناديتك، لم يكن لنداءي صدى،
كأنّ الطيور تُغادر وطنها بلا سبب،
وترحل الأيام كغيمة بلا وعدٍ مُمدد.
أودع أطيافك في زوايا الأيام،
أرسم ذكراك على ضفاف البحر،
تتراقص الأمواج في قلوب الحساد،
وأنا أسقط في عمق الحكايات كالحجر.
يا ليلةُ الحب، يا شمسَ الفراق،
أعطني دمعي، فهو قصة الغرام،
ففي كل قطرةٍ تُسجل حكاية عشق،
وكل شريانٍ تربع، هو دلالةُ الكرام.
أنت من بدأت البعاد حين تجاهلتني،
وأنا الغريب، أعيش في ظلال الذكرى،
أفتش عنك بين أشجار النخيل،
وفي كل بنةٍ من زهر، أرى وجهك بوضوحٍ يبتسم.
لقد بدأت فرقتنا حين ماتت قلوبنا
تبقت دمعة الاشتياق، تحرق زهرَ الأماني
في زوايا الليل، تتساقط نجوم الذكريات
وطيفك يسكن المخيلة، كأسرار الغيابِ.
يا لحظات السعادة، كحبات الندى
تتلاشى في شمس الغربة، كالأيام البالية
أبحث عن نبرات صوتك في صدى الريح
لكن الهوى يصرخ في صمت المآسي.
مضى زمنٌ كطيفٍ غريبٍ،
وفي حنايا الصدق، سُجنت الآمال،
كيف أستطيع إيقاظ أشواقٍ هازئة
يعزفها الزمن على أوتار النسيان؟
على ضفاف النيل، تتراقص الأسماك،
تسألني عنك، وعن تفاصيل أعماق قلبك،
تتجمد الدمعة في محاجرِ العيون،
وتبقى الجراح كالجذور، تنبش الأرض بلا حدود.
كم من رسائل كتبتها في وحدتي،
تنهمر على ورق الزمن، كزخات المطر،
فيها كل الحنين، كل الانكسارات،
وفي كل سطرٍ، يُشعل قلبي الأثر.
لقد بدأت فرقتنا حين قُتل الشوق،
وحين انطفأت الأضواء في زمنٍ مشؤوم،
لكن الدمعة تبقى، كاللؤلؤة الغارقة،
تبحث عن أصداء ذلك الحب المنتظر.
زرفت دمعة الاشتياق ما تبقى دمعة الحنين
وفي عيون الليل أرى ذكراكِ شبحاً، كالعين
تسحبني إلى ماضٍ زهره لم يذبل،
كأن الحزنَّ تلقي بجثاماته على جبيني.
كلما مرَّ طيفك بين شوارع الذاكرة،
يتوسد القلب في زوايا الحزن العتيق،
أبحث عنك في كل عصفورٍ طائر،
وفي كل سطر، أعيشه كأغنية فراقٍ رقيق.
أيامنا، كالنجوم ساطعة في سماء بين،
لكنها تتلاشى كأسرارٍ بين الرمال،
وفي خطوط الزمن تتورط الأقدار،
تسلبنا منّا أحلامنا، وتصمت الأمال.
في فجر كل يوم، تُعدُّ خطواتي،
لكن ظلكِ يقف وراء الأفقِ البعيد،
ترافقني الذكريات، لكن دون بهجة،
كأنني أسير بين الحقول على جثث الوعود.
زدتُ أسجل كل لحظةٍ سقطت في الخيال،
كأن الوقت لن يُعيدَ لنا ما فقدناه،
وكل دمعة حزينة تحكي عن غيابكِ،
تُعزف على أوتار القلب في صراعٍ مُتجدد.
زرفت دمعة الاشتياق ما تبقى دمعة الحنين،
أراها تسقط كالشلال على شاطئ الموج،
تغسل بقايا ذكرياتي القديمة،
وترسم صوركِ بكل ألوان الفراق الصريح.
هل ترى الموت يفجعني بعدما جفت العيون؟
ما تبقى مني بين الأحداث أسير،
أسير في دروبٍ تملؤها الأشواك،
قلب محملٌ بأحزان القلب المسير.
كلما نظرت إلى السماء، أرى ظلال الذكريات،
تذكرني بلحظاتٍ سلبتها الأقدار،
والوقت ينقضي، كالنهر الذي يجري،
لا يلتفت إلى شوقي، ولا يرحم الأوزار.
تتراقص الأوهام في زوايا الفكر،
تغني لي قصائد عشقٍ باتت في زوال،
وأسأل نفسي، هل سأحيا بعدكِ؟
أم سأبقى بين الأنفاس كظلٍّ على جدار؟
في كل زاوية قصة حزينةٍ تروى،
وعيونٌ تساءل، كيف لك العيش بلا هوى؟
لكنني رغم الألم، أزهر في الفصول،
أبحث عن السلام بين الهمسات والدموع.
هل تري الموت يفجعني بعدما جفت العيون؟
إنني أُحيى بالأمل، رغم كل المصير،
فالحب لا يموت، بل يتجلى في الأرواح،
ويبقى نبضه في القلب، أسيرًا، لن ينكسر.
لقد ذهبت إلى الرحلة، والوسع هناك
بعد بوابة الموتى، كمين الذكريات
مرَّ من هناك، أصداء أحاديثٍ تائهة،
وحكايا قلوبٍ تألمت من الفراقِ والآهات.
لا تسأل عن زمنٍ فات،
فالزمن حكاية منسوجة بأهداب الفراق،
وأنا أعدو هنا، أرتب الفراق لما هو آت،
كأنني أجرُّ أذيال الذكرى بين الطرقات.
في كل زاويةٍ عانقت فيها الغياب،
تتراقص الأرواح كأوراقٍ في مهب الريح،
تملأني مشاعرٌ متضاربة،
أحاول تجميعها كأحجارٍ في دربي الطويل.
لكني أعلم أن تلك الرحلة لها ثمن،
فلكل عاطفةٍ دمعٌ، ولكل ذكرى جرحٌ عميق،
ومهما طالت بنا الطريق،
ستظل الأنفاس تنادي، تبحث عن الأمان والمثيل.
لقد ذهبت إلى الرحلة، هناك في المدى،
أرسم بكاء القلب على رمل العصور،
وأنا أرتب الفراق لما هو آت،
لأكون مستعدًا لكل شوقٍ، ولكل سرٍّ غيور.
انتظرني هناك بين حوض وروضة،
ستجد نور أبو إبراهيم مع الخليل،
يستقبلون نهاية السفر والرحلة،
يعيشون في آيات الحب الجليل.
هناك حيث الأنهار تجري بركة،
وحيث تسطع الأضواء في سماء الصفاء،
سأنضم إلى قافلة الذين قد سبقوني،
بحثاً عن سجودٍ وارتقاء.
يُقاس توحيدٌ وثباتٌ في القلب،
بالأفئدة الطاهرة المنفتحة للسماء،
أني أملك العشم أنهم يمنحون الحنين سلامة،
ويعطون الذنوب شفاعةً، كما تُمنح النجوم للسماء،
ويطلبون الرحمة لنا في كل ساعة،
فيضٌ من الحب يمسح كل الكآبة والشقاء.
فلازمٌ أن بين يديهما المعجزات،
إذ أن الله لهما إذنٌ كبير،
يرطبون جفاف ما كدحنا هنا،
ما كبدنا في قلوبٍ متعبة، تحمل الآلام بلا تعبیر.
كم من ذكرى أوجعتني، وكم من لحظاتٍ أدمت،
تتدفق الأقدار كالأمواج، لا تترك لي مأمنًا،
لكنني أجد بين يديهما،
رحمةً تعيد لي الحياة بعد كل سُهاد.
يا أبو إبراهيم والخليل، يا ملاذ الأمل،
أنتما من تحملان الدعوات في صمت الليل،
فاجعلوا من قلوبنا جناتٍ غناء،
لتنمو فيها الأحلام، وتشرق فيها شمس الأصيل.
أني أملك العشم، فدعوني أرفرف بأجنحة البحث،
عن الرحمة التي تستقبلني في كل آنٍ ووقت،
لأنني مؤمنٌ أن في حنايا الروح،
هناك نورٌ يسكن لا ينطفئ أبدًا، ولا يُنسى بل يتجدد.
وهناك، حيث الأرواح تلاقى،
أسمع همساتهم، تغني بالأداء.
انتظرني بين طيات الذكر،
في الفجر الجديد أستنشق النور،
فكل خطوةٍ نحو الخليل هي رحلة،
فيها أشهد بداياتٍ، ونهاياتٍ بلا قهر.
فمن حوض العافية، أرتوي مع كل عابر،
ومن روضة الأحلام أزرع الأمان،
انتظرني هناك، حيث كل الأمل،
يصبح حقيقةً بين يدي الرحمن.
مع تحياتي
ايهاب محمد زايد
القاهره -دارالسلام
١٦ـ١-٢٠٢٥
بعد استقبال خبر وفاة
الدكتور عبد السلام المنشاوي
الواحدة بعد الظهر وثلاثة وعشرين دقيقة



