مقالات

حين تكبر السمعة… من يبقى حيًّا؟ رَحم السمعة: حين يُخرسُ النجاحُ نبضَ الروح

حين تكبر السمعة… من يبقى حيًّا؟ رَحم السمعة: حين يُخرسُ النجاحُ نبضَ الروح

بقلم إيهاب محمد زايد
شجرة البلوط التي نسيت جذورها لا تزهر. السمعة الدولية لا تنفجر فجأة، بل تتسلل كاللبلاب البطيء: تبدأ بخيط رفيع من ورقة بحثية في مجلة عالمية، تتقوى بزيارة أستاذ زائر يتحدث بدهشة عن “مختبر ذلك المعهد الناشئ”، تتراكم بمنحة دولية تليها عشر، حتى تأتي اللحظة التي يتجاوز فيها عدد الاستشهادات بالأبحاث عدد سكان المدينة. لكن السمعة، كاللبلاب نفسه، تملك قدرة مزدوجة: إما أن تُزيّن الجدار، وإما أن تخنق المبنى.
المأساة المخملية: عندما يصبح الحلم كابوساً
انظر إلى “مدرسة فرانكفورت” التي انطلقت في عشرينيات القرن الماضي كنقد جذري للمجتمع الصناعي. كانت مدرسةً بالفعل: صالونات مناقشة، خلافات حامية، خطابات تدخل العقل من الأذن لتخرج من القلب ناراً. لكن مع الوقت، وحصول أعضائها على كراسي في جامعات أمريكية مرموقة، تحولت “النظرية النقدية” من سلاح تفكيك إلى مادة أكاديمية تُدرَّس في 1,200 قسم علم اجتماع حول العالم. تحول أدورنو وهوركهايمر من متمردين إلى “كلاسيكيات” ضمن المنهج الإلزامي. ماتت المدرسة كحركة حية، وعاشت كنموذج محنط.
هذه المعادلة القاتلة لا تقتصر على الأفكار بل تمتد إلى المؤسسات. فجامعات رابطة اللبلاب (Ivy League) في أمريكا تُنفق الآن 65% من ميزانياتها البحثية على “حفظ التصنيف” – استقطاب النجوم الأكاديميين، والتسويق الدولي، وتطوير البنية التحتية الترفيهية – مقابل 35% فقط على “الاستكشاف المجهول”. لقد أصبحت سلعة فاخرة: تكلفة الدراسة في هارفارد تصل إلى 78,200 دولار سنوياً، أي ما يعادل دخل 10 أسر مصرية لمدة عامين.
التصنيف ÷ الإبداع = الموت. في عالم تحكمه مؤشرات التقييم الدولي (QS, THE, Shanghai) بنسبة 87% من قرارات التمويل الحكومي، تتنافس الجامعات على نفس المعايير العقيمة: عدد الأبحاث في مجلات النخبة (حتى لو كانت تكراراً)، نسبة الأساتذة الأجانب (حتى لو كانوا “نجوماً” يزورون الحرم الجامعي مرة كل عامين)، عدد براءات الاختراع المسجلة (حتى لو كانت تعديلات طفيفة).
المفارقة التاريخية تصرخ: بينما أنتجت جامعة برلين الحديثة (تأسست 1810) 29 عالماً حازوا جوائز نوبل عندما كانت تركّز على “الحرية الأكاديمية والوحدة بين البحث والتعليم”، فإن جامعات اليوم تُنتج أوراقاً بحثية أكثر بعشرة أضعاف ولكن بأثر علمي أقل بنسبة 70%.
تشريح الموت البطيء: ثلاث مراحل للاختناق
المرحلة الأولى: استبدال السؤال بالشهادة
يتحول السؤال الجوهري من “هل سيغير هذا البحث شيئاً؟” إلى “في أي مجلة ستُنشر؟”. هذا الانزياح ليس تقنياً بل وجودي. ففي فترة 2005-2020، انخفضت نسبة المقترحات البحثية “عالية المخاطر – عالية المكافأة” في المعاهد الأوروبية من 30% إلى 4% فقط. البحث الذي كان مغامرة في المجهول صار امتداداً لبيروقراطية التقييم.
المرحلة الثانية: ترويض الاختلاف
الباحث الذي يطرح أسئلة خارج “الاتجاهات الساخنة” يصبح “غير استراتيجي”. في استطلاع لمجلة Nature عام 2023، اعترف 68% من الباحثين الشباب بأنهم يعدلون اتجاه بحوثهم لتناسب “ما يريده المجتمع الدولي”. لقد تحول الاختلاف من فضيلة معرفية إلى مشكلة إدارية، ومن ثراء فكري إلى عائق بيروقراطي. العلم الذي لا يتحمل صوت المخالف يموت بالجمود.
المرحلة الثالثة: تحويل المختبر إلى مصنع
يصبح الباحث “مدير مشروع” يقضي 60% من وقته في كتابة تقارير وملء نماذج. دراسة جامعة كاليفورنيا (2022) تكشف أن نسبة الوقت المخصص للتفكير الحر تقلصت من 40% إلى 7% فقط. المختبر الذي كان ورشة للاكتشاف يتحول إلى خط إنتاج بيروقراطي، حيث تُقاس الإنتاجية بعدد الصفحات المقدمة لا بعدد الأفكار المبتكرة.
الأرقام تشهد على هذا الطلاق الصامت بين السمعة والقيمة: 70% من الأبحاث المنشورة في المجلات المصنفة Q1 لا يُستشهد بها أبداً بعد خمس سنوات. بينما تموت أبحاث محلية في مجلات إقليمية قد تحل مشكلات مائية أو زراعية تعاني منها ملايين السكان. وفي الاقتصاد المعرفي الحقيقي: 41% من الشركات الناشئة الناجحة عالمياً تأتي من “جامعات الطبقة الثانية” حسب تصنيف QS، لأنها تركّز على حل مشكلات حقيقية بدلاً من مطاردة التصنيفات.
بصيص الحياة: كائنات تتعلم التنفس تحت الماء
لكن في عمق هذا اليأس، تبرز استثناءات تثبت أن الخيار ليس حتمياً:
معهد بيرميتر الكندي يحتفظ بـ “سياسة الغباء المجيدة” حيث 30% من وقته لا ينتج أوراقاً بحثية، بل حوارات فلسفية عابرة للتخصصات، فأَنتج اكتشافات في فيزياء الكم لم تكن لتحدث في بيئة أكاديمية تقليدية.
جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية ركّزت على تحدي واحد عميق: تحلية المياه بالطاقة الشمسية. الآن، تكلفة التحلية لديها 3 دولارات للمتر المكعب مقابل 12 دولاراً للمعيار العالمي. تأثيرها العملي يفوق آلاف الأوراق البحثية.
معهد سانتا في برفضه التخصصات الأكاديمية التقليدية، جعل 40% من بحوثه لا تُنشر في مجلات تقليدية، لكنها تُغيّر طرق التفكير من الاقتصاد إلى علم الأوبئة.
هذه النماذج تكشف عن المعادلة الحيوية للتنفس تحت وطأة السمعة:
أولاً: مقياس التأثير الحقيقي
• كم مشكلة محلية حلّها البحث؟
• كم شركة ناشئة وُلِدت ونجحت؟
• كم سياسة عامة تغيّرت بسبب توصيات المعهد؟
البحث الذي يحل أزمة مياه في قرية نائية يستحق أن يُحتفى به أكثر من ألف ورقة نظرية تنام في الأرشيف.
ثانياً: التنوع المعرفي كمناعة
جامعة إثيوبيا التي خصّصت 25% من بحوثها لـ”الحكمة الزراعية التقليدية”، ساهمت في تطوير سلالات قمح تقاوم الجفاف انتشرت في 8 دول أفريقية. الحكمة لا تحمل جواز سفر غربياً.
ثالثاً: الشجاعة المؤسسية
معهد “العلوم العصبية في أفريقيا” باكتشافه آليات الذاكرة في الثقافات الشفهية، غيّر فهم العالم لتنظيم الدماغ. السؤال المختلف أنتج إجابة مختلفة غيّرت خريطة العلم.
الخلاصة: العودة إلى سؤال الولادة الأول
في النهاية، يعود السؤال المصيري: لماذا وُجد هذا المعهد؟
إن كانت الإجابة: “لنكون في المرتبة 150 عالمياً”، فهذه نعي مبكر. إن كانت الإجابة: “لنغير شيئاً ما في عالمنا، ونساهم في الحوار الإنساني الكبير”، فما زال القلب ينبض.
السمعة الدولية الحقيقية ليست تلك التي تُمنح، بل تلك التي تُفرَض لأن المؤسسة أصبحت ضرورية للعالم. كما قال الفيزيائي فريمان دايسون: “العظمة ليست في أن تكون الأشهر، بل في أن تكون الذي لا يمكن الاستغناء عنه.”
ربما تكون أعظم لحظة في حياة أي معهد ليست حين يُذكر اسمه في التصنيفات، بل حين يسأل أحدهم في قاعة مؤتمرات عالمية: “وكيف تعامل معهدكم مع هذه المشكلة؟”، فيصمت الحضور وينصتون، لأنهم يعلمون أن الإجابة ستأتي من مكان لم يبع روحه مقابل الشهرة، مكان ما زال يذكر لماذا وُلِد، ولماذا يستحق أن يبقى حيّاً.
و بعد استعراض تحليل الأزمة وتشخيص أعراضها، يبرز سؤال جوهري: ما هي الآليات الخفية التي تدفع المؤسسات العلمية نحو هذا المصير رغم وعي الكثيرين بمخاطره؟ وما هي الحلول العملية للخروج من هذه الدائرة المفرغة؟
الفصل المُغيّب: اقتصاديات السمعة الأكاديمية
وراء سباق التصنيفات يقف نظام اقتصادي كامل تحوَّل إلى سجن ذهبي. صناعة المجلات الأكاديمية أصبحت واحدة من أكثر الصناعات ربحية في العالم، حيث تصل هوامش ربح بعض الناشرين إلى 40%، بينما تقدم الجامعات عملها البحثي مجاناً وتدفع ثمناً باهظاً للوصول إليه. المفارقة أن الباحث الذي يرفض هذا النظام يجد نفسه خارج لعبة الترقيات والتمويل.
سوق النجوم الأكاديميين يشبه سوق كرة القدم العالمية. الأستاذ “المرموق” الذي ينشر في مجلتي Nature و Science يمكن أن يحصل على راتب يزيد عن 500 ألف دولار سنوياً، بالإضافة إلى ميزانيات بحثية تصل لملايين الدولارات. هذه الفجوة الهائلة تخلق نظاماً طبقياً داخل الأكاديميا نفسها، حيث يُقاس قيمة الباحث بعدد استشهاداته لا بأثر بحثه على الواقع.
التشوه المعرفي: اغتراب العلم عن سياقه
استعمار فكري بمقاسات حديثة
عندما تتبنى جامعة في الجنوب العالمية معايير البحث في الشمال المتقدم، فإنها لا تستورد المنهجية فقط، بل تستورد أسئلة الآخرين وإشكالياته. البحث في الهندسة الوراثية للنباتات يصبّ في تطوير محاصيل تناسب المناخ المعتدل والتربة الغنية، بينما تهمل محاصيل الجفاف التي يحتاجها الفلاح الفقير في الساحل الأفريقي.
النتيجة: علم بلا جذور. ففي حين أن 80% من الأبحاث المنشورة تأتي من أمريكا الشمالية وأوروبا، فإن 90% من المشكلات العالمية الملحة (المياه، الصحة العامة، الأمن الغذائي) تتركز في الجنوب العالمي. هذا الانزياح الجغرافي للمعرفة يخلق فجوة وجودية بين إنتاج العلم واحتياجات البشر.
موت التخصصات البينية
النظام الحالي يكافئ التخصص الضيق، لأنه ينتج أوراقاً بحثية أسرع وأكثر قابلية للنشر في مجلات مرموقة. بينما التخصصات البينية التي تحتاج وقتاً أطول لفهم لغات متعددة وتوليفها، تجد نفسها مهمشة. دراسة في جامعة ستانفورد أظهرت أن نسبة البحوث البينية انخفضت من 22% إلى 9% في العقدين الماضيين، رغم أن أهم الاكتشافات في القرن الحادي والعشرين جاءت من هذه المناطق الحدودية بين التخصصات.
الذكاء الاصطناعي: محفّز الأزمة أو مخرجها؟
تقنية GPT والمشابهات لها تخلق تحديّاً وجوديّاً جديداً. فمن ناحية، تُستخدم الآن في تسريع إنتاج الأوراق البحثية، حيث يمكن توليد مراجعات أدبية كاملة في دقائق، مما يزيد من فيضان الأوراق عديمة القيمة. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تكون هذه التقنيات أداة لـتحرير الباحث من الأعمال الروتينية، وإعادته إلى جوهر عمله: التفكير الإبداعي والتأمل.
المخيف أن بعض الجامعات بدأت تدمج مؤشرات استخدام الذكاء الاصطناعي في تقييم إنتاجيتها البحثية، مما يعني أننا قد ندخل عصراً تُقاس فيه الجودة بقدرة الآلة على محاكاة العلم لا بقدرة العقل على تجاوزه.
المقاومة الخفية: حركات الإصلاح من الداخل
رغم الصورة القاتمة، هناك حركات إصلاحية تنمو في الظل:
1. حركة العلوم المفتوحة (Open Science)
تسعى لإعادة العلم إلى مبادئه الأصلية: الشفافية، التشاركية، والوصول الحر. أكثر من 15,000 باحث و750 مؤسسة وقعوا على إعلان “الثقة في العلم المفتوح” الذي يرفض نظام النشر التجاري ويطالب بمعايير جديدة للتقييم.
2. الجامعات الهادئة (Silent Universities)
مصطلح يُطلق على مؤسسات ترفض المشاركة في سباق التصنيفات عمداً، وتختار التركيز على التعليم العميق والتأثير المحلي. جامعة “أميان” في فرنسا خفضت عمداً عدد طلابها بنسبة 30% لترفع جودة التعليم، ورفضت التوسع الدولي لحفظ هويتها المحلية.
3. العلوم المجتمعية (Community Science)
حيث يُصمم البحث بالشراكة مع المجتمع المحلي من البداية. في كولومبيا، صمم مزارعون ومهندسون محليون مع باحثين نظام ري ذكياً قلّل استهلاك المياه بنسبة 60%. البحث نُشر في مجلة محلية فقط، لكن تأثيره غير حياة 40,000 أسرة.
خريطة الخروج: مقترحات عملية
على مستوى الباحث الفردي:
• حِلف الفضول: تشكيل مجموعات بحثية صغيرة عابرة للتخصصات، تلتقي أسبوعياً لمناقشة أسئلة “غير نافعة” أكاديمياً.
• التنويع المعرفي: قضاء 20% من الوقت في قراءة خارج التخصص، وزيارة مراكز مجتمعية، والتحدث مع صنّاع القرار المحليين.
• المقاومة الرقمية: استخدام منصات بديلة مثل ResearchGate و Academia.edu بدلاً من الاعتماد الكلي على Scopus وWeb of Science.
على مستوى المؤسسة:
• ميزانيات المخاطرة: تخصيص 15% من الميزانية لأبحاث “عالية المخاطرة” لا تتوقع منها أوراقاً سريعة.
• تقييم التأثير المتأخر: نظام ترقيات يكافئ البحث الذي ظهر تأثيره بعد 5-10 سنوات، لا الذي نشر في السنة الماضية.
• الشراكات غير التقليدية: التعاون مع مدارس، مصانع صغيرة، جمعيات زراعية، لإنتاج معرفة تنبت من الأرض.
على مستوى النظام:
• مؤشرات الكثافة المعرفية: بدلاً من حساب عدد الأوراق، حساب كثافة الأفكار الجديدة لكل ورقة.
• التمويل المقطوع: منح تمويل لمدة 5 سنوات دون تقارير فصلية، مع تقييم نهائي جذري.
• مجلات السياق: إنشاء مجلات تقيّم البحث بناءً على ملاءمته للمشكلة المحلية لا على معايير النخبة العالمية.
من البقاء إلى البقاء بمعنى النجاة من فخ السمعة لا تعني رفض التميز، بل إعادة تعريفه. التميز الحقيقي لم يكن يوماً في مطاردة المرايا، بل في شجاعة النظر إلى الواقع كما هو، والبحث عن الأسئلة التي تؤلم حقاً، وبناء المعرفة من لحم التجربة الحية وليس من وهم الاستشهادات.
العالم لا يحتاج إلى المزيد من الأوراق التي تتحدث عن الجوع، بل إلى باحثين يتحول مختبرهم إلى مطبخ يطعم الجائعين. لا يحتاج إلى دراسات عن الفقر، بل إلى جامعات تفتح أبوابها لتعليم من لا يملك ثمن الكتب.
ربما تكون أعظم ورقة بحثية في القرن الحادي والعشرين هي تلك التي لا تُنشر في مجلة مرموقة، بل تُكتب على أرض قرية، بحبر التجربة، وتوقيع الأمل. فالعلم الذي لا يلامس الجرح لا يستحق اسم العلم، والمؤسسة التي تنسى أنها جزء من الأرض التي تقف عليها، مصيرها أن تسقط حين تهب الرياح، لأن شجرة بلا جذور لا تصمد أمام العاصفة، مهما علت وتفرعت.
العودة إلى الجذر ليست خطوة للوراء، بل هي الشرط الوحيد للنمو الحقيقي. والسمعة التي تنبت من خدمة الحياة لا تطاردها النجوم، بل تصنع نجومية جديدة: نجومية المعنى، نجومية التأثير، نجومية البقاء ليس كرقم في تصنيف، بل كحاجة في قلب العالم.
الفصل المُنسي: تشريح جذور الفشل العميقة
الوجه النفسي للأزمة – سيكولوجية المؤسسة المُصابة
ما لا يُناقش في هذا السياق هو الخوف المؤسسي الذي يشلّ الحركة. الخوف من السقوط في التصنيفات ليس خوفاً من فقدان مكانة مجردة، بل خوف من فقدان التمويل، الطلاب، والشرعية. هذا الخوف يخلق نوعاً من “الجنون الجمعي المؤسسي” حيث تتبع جميع الجامعات نفس الاستراتيجيات الفاشلة مع علمها بفشلها، لأن الخروج عن القطيع يُعتبر مخاطرة وجودية.
متلازمة المحتال المؤسسي: كما يشعر الأفراد بمتلازمة المحتال، تشعر المؤسسات العلمية – خاصة في العالم غير الغربي – أنها لا تستحق مكانتها، فتلهث وراء اعتراف الآخر (الغرب) عبر محاكاة معاييره. هذا يخلق صراع هوية يفرّغ المؤسسة من روحها: هل نحن جامعة عربية/إفريقية/آسيوية تخدم واقعها؟ أم فرع لمؤسسة غربية في بلادنا؟
المال الساكن – كيف تموت الموارد في دهاليز البيروقراطية
الأرقام المخفية تكشف أن 30-40% من المنح البحثية تذهب لإدارة البحث نفسه: مكاتب الدعم البحثي، مستشارو النشر، مسؤولو الامتثال، وأنظمة المتابعة والتقييم. باحث في جامعة أوروبية كبرى قال: “أحتاج إلى 7 توقيعات و15 نموذجاً للحصول على جهاز كمبيوتر جديد، بينما فكرتي البحثية يمكن أن تموت خلال هذه الفترة.”
اقتصاد الاستعراض المعرفي: تنفق الجامعات ملايين على مؤتمرات دولية يشارك فيها باحثوها لعرض “وجودهم العالمي”، بينما تغفل عن إنشاء مكتبة رقمية محلية أو دعم مجلات محكمة محلية. السفر لحضور مؤتمر في أمريكا قد يكلف 5000 دولار، وهو ما يمكن أن ينشئ به مختبراً صغيراً في قرية محتاجة.
الطلاب الغائبون عن المعادلة
المفارقة الأقسى أن كل هذه الآلة الضخمة تُدار باسم “الطلاب” و”مستقبلهم”، بينما الطالب الحقيقي غائب عن المعادلة. في دراسة شملت 50 جامعة مصنفة عالمياً:
• 80% من الطلاب لا يعرفون ماذا يعني تصنيف QS أو Times
• 92% قالوا أن “جودة الأستاذ الإنسانية والتعليمية” أهم من شهرته البحثية
• 67% فضلوا جامعة محلية جيدة التعليم على جامعة عالمية ذات تعليم ضعيف
تحويل الطالب إلى سلعة: في هذا النظام، الطالب الدولي – خاصة من دول العالم النامي – يصبح مصدر دخل، و”رقمًا” في خانة “التعليم الدولي” التي ترفع التصنيف. رسومه المرتفعة تمول البنى التحتية الفارهة التي ترفع التصنيف أيضاً، في حلقة مفرغة.
الأمل الذي يأتي من غير المتوقع: نماذج جديدة تخلق عالمها الخاص
1. نموذج “الجامعة المُتنقلة”
في رواندا، مجموعة من الباحثين الشباب أسسوا “جامعة الحقيبة”: حقيبة تحتوي على معدات معملية بسيطة، كتب رقمية، وأجهزة عرض. ينتقلون بين القرى يعلمون ويبحثون مع المجتمع. نشرتهم البحثية هي قصص التحول التي يحدثونها، ومجلاتهم هي ذاكرة المجتمعات التي يخدمونها.
2. نموذج “العلماء المواطنون” (Citizen Scientists)
في البرازيل، برنامج “العلم في الفناء الخلفي” يدرب سكان الأحياء الفقيرة على جمع البيانات البيئية والصحية. البيانات التي يجمعها “العلماء المواطنون” غيّرت سياسات صحية محلية، ونشرت في تقارير أثرت على قرارات وطنية.
3. نموذج “التقييم التشاركي”
في ماليزيا، جامعة صغيرة تخلت عن نظام الترقيات التقليدي. بدلاً منه، كل ثلاثة سنوات، يُقيّم الباحث من قبل: زملائه (20%)، طلابه (30%)، ومجتمع محلي يخدمه (50%). النتيجة: تحولت الأبحاث من النظرية المجردة إلى حلول عملية.
الفلسفة المفقودة: لماذا نحتاج إلى “إبيستمولوجيا المقاومة”
(الإبيستمولوجيا: نظرية المعرفة)
الخلل الجذري هو فلسفي: لقد قبلنا إبيستمولوجيا الاستيراد بدلاً من بناء إبيستمولوجيا السياق. إبيستمولوجيا الاستيراد تقول: “الحقيقة العلمية عالمية ومنفصلة عن السياق، لذا يجب أن نستورد منهجيات ومواضيع من مراكز الإنتاج المعرفي”. إبيستمولوجيا السياق تقول: “المعرفة تنبت من تفاعل العقل مع واقع محدد، والحقيقة التي لا تحل مشكلة محلية ليست حقيقة كاملة”.
مقاومة الإبيستمولوجيا المسطحة: نحتاج إلى رفض فكرة أن “الجودة” شيء واحد قياسي. جودة البحث في فيزياء الكم تختلف عن جودة البحث في تحلية المياه، تختلف عن جودة البحث في التراث الثقافي. كل سياق يحتاج معاييره الخاصة.
الاقتراح الجذري: نظام تكافؤي بديل
1. مبادلة الاستشهادات بالتحولات
بدلاً من نظام الاستشهادات، نظام يقيس التحولات: كم تحولت فكرة بحثية إلى سياسة، منتج، سلوك مجتمعي، تغيير بيئي؟
2. الوقت البطيء (Slow Time)
تبني الجامعات “مساحات الزمن البطيء”: أيام أو أسابيع لا يُسمح فيها بأي إنتاج (لا أوراق، لا اجتماعات، لا تقارير)، فقط تأمل، قراءة عشوائية، محادثات غير موجَّهة.
3. المحكمة المعرفية
كل عام، تُعقد “محكمة” يقدم فيها الباحث دفاعاً عن “جدوى معرفته” أمام محكمين من تخصصات مختلفة وأفراد من المجتمع. التقييم لا يكون بنقاط بل بسؤال: “هل نستمر في تمويل هذا النوع من المعرفة؟”
4. الذكاء الاصطناعي كحليف لا خصم
تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي لا تكتب الأوراق بل:
• تكشف التقليد والتبعية في الأبحاث
• تقترح روابط بين مشكلات محلية وأبحاث عالمية
• تقيّم تنوع المصادر المعرفية في البحث
من التقييم إلى التقدير
ربما كلمة “تقييم” نفسها هي جزء من المشكلة. التقييم (Evaluation) يأتي من “قيمة” (Value) ويعني وضع سعر. لكن العلم ليس سلعة، والمعرفة ليست للبيع. نحتاج إلى العودة إلى “التقدير” (Appreciation) الذي يعني فهم القيمة الحقيقية.
الجامعة التي تنجو ليست التي تحصل على أعلى تصنيف، بل التي عندما تُغلق أبوابها، يشتاقها المجتمع، يفتقدها الطلاب، ويشعر العالم بفراغ مكانها. لأنها لم تكن مبنىً يضم مختبرات، بل كانت روحاً تتنفس أسئلة حية، وتعطي إجابات تُحيي.
في آخر المطاف، السمعة الحقيقية لا تُمنح من الخارج، بل تُولد من الداخل، من صدق السؤال، ومن شجاعة البقاء أوفياء لجذورنا بينما ننظر إلى النجوم. لأن الشجرة التي تمد جذورها عميقاً في تربتها المحلية هي الوحيدة القادرة على أن تمد أغصانها عالياً لتلامس العالمية الحقيقية – لا العالمية الرقمية في التصنيفات، بل العالمية الإنسانية في العطاء.
السؤال الأخير: عندما تُغلق جامعتك أبوابها مساءً، هل يشعر العالم أنها فقط استراحت ليبدأ يومها غداً؟ أم يشعر أنها توقفت عن التنفس مؤقتاً؟
الفرق بين الحالتين هو الفرق بين السمعة التي تُلبس كالقناع، والسمعة التي تنبض كالقلب.
البُعد الجيو-سياسي: المعرفة كساحة حرب جديدة
الجغرافيا السياسية للتصنيفات العالمية
ما لم يُذكر بعد هو أن أنظمة التصنيف الدولي ليست محايدة، بل هي أدوات جيو-سياسية. من يتحكم بمعايير QS أو Times Higher Education؟ مؤسسات غربية تفرض رؤيتها للعالم كمعيار عالمي. الدراسة التي تكتب باللغة الإنجليزية عن مشكلة محلية في مصر أو الهند تُقيّم أعلى من دراسة مكتوبة بالعربية أو الهندية تحل نفس المشكلة. الإمبريالية اللغوية أصبحت إمبريالية معرفية.
خريطة المعرفة العالميّة المشوّهة:
• 85% من هيئات التحرير في المجلات المصنفة Q1 من أمريكا الشمالية وأوروبا
• 92% من المراجعين المحكمين في هذه المجلات من نفس المناطق
• 70% من الأبحاث المرفوضة من الجنوب العالمي تُرفض لأسباب “عدم ملاءمة للمجتمع الدولي” وليس لأسباب منهجية
هذا يخلق دائرة مغلقة: المجلات الغربية تحدد ما هو “علمي”، الباحثون في الجنوب يقلدون ذلك لينشروا، التصنيفات تكافئ النشر في هذه المجلات، والجامعات تدفع ثمن الاشتراكات الباهظة لتصل لأبحاث أبنائها!
التكنولوجيا كساحة صراع جديدة – من يملك البيانات؟
الحرب الحديثة ليست على الأرض بل على البيانات البحثية. عندما تنشر جامعة في الجنوب بحثها في منصة غربية، فإنها تقدم بياناتها مجاناً لشركات تعيد بيعها بآلاف الدولارات. الباحث المصري الذي يدرس نباتات الصحراء يقدم بيانات قد تستخدمها شركات أدوية عالمية دون أن يعود منها أي نفع على بلده.
استعمار البيانات البحثية:
• منصة Scopus مملوكة لـElsevier الهولندية
• Web of Science مملوكة لـClarivate الأمريكية
• حتى البيانات المجانية على Google Scholar تخضع لخوارزميات تحدد ما هو “مهم” بناءً على معايير غربية
الجامعات في الجنوب العالمي تدفع ملايين الدولارات سنوياً كاشتراكات للوصول إلى بيانات هي من أنتجت أساساً!
الأخلاقيات المفقودة – علم بلا ضمير
السباق المحموم خلق انفصالاً أخلاقياً خطيراً:
1. أخلاقيات النشر: 40% من الباحثين يعترفون بضغط زملائهم عليهم لإضافة أسماء لم تشارك في البحث فقط لزيادة فرص النشر دراسة في (Science 2023)
2. الاستغلال الهرمي: الأستاذ النجم قد يوقع على 50 ورقة سنوياً بفضل فريق من الباحثين الشباب الذين يعملون 80 ساعة أسبوعياً برواتب زهيدة. نظام العبودية الأكاديمية الحديثة.
3. البيئة الضائعة: مؤتمر علمي واحد بحضور 3000 شخص قد ينتج 2000 طن من انبعاثات الكربون (رحلات طيران فقط). العلم الذي يدرس التغير المناخي يساهم فيه!
الرؤية التحويلية: ما بعد الجامعة التقليدية
نموذج “الخلية المعرفية” بدلاً من “الإمبراطورية الأكاديمية”
بدلاً من جامعة ضخمة ب20,000 طالب، شبكة من الخلايا المعرفية المترابطة:
• خلية بحثية في قرية نائية تعمل على الزراعة المستدامة
• خلية في حي حضري تعمل على إعادة التدوير الذكي
• خلية في منطقة ساحلية تعمل على حماية الشواطئ
• كل خلية: 5-10 باحثين، 20-30 طالباً، مرتبطة بمجتمعها عضويًا
مبدأ التبادل لا التبعية: الخلايا تتبادل المعرفة ولا تتبع مركزاً واحداً. المعرفة تتدفق أفقياً لا عمودياً.
إعادة تعريف “الدرجة العلمية”: من الشهادة إلى السيرة المعرفية
بدلاً من PhD )دكتوراة الفلسفة) التي تعني “أستاذ كل شيء”، نظام شهادات السياق:
• دكتوراة في حل المشكلات المائية في المناطق شبه الجافة
• ماجستير في التعليم المجتمعي للأحياء الحضرية الفقيرة
• بكالوريوس في الابتكار التكنولوجي منخفض التكلفة
السيرة المعرفية الرقمية: كل باحث لديه ملف رقمي لا يسرد الأوراق المنشورة بل:
• المشكلات التي حلها
• المجتمعات التي تأثرت بأبحاثه
• الأسئلة الجديدة التي ولّدها
• الروابط بين تخصصاته المختلفة
الاقتصاد المعرفي الجديد: علم يقيس نفسه بتأثيره
نظام المقايضة المعرفية:
• جامعة في كينيا تقدم خبرتها في الزراعة الجافة
• جامعة في البرازيل تقدم خبرتها في الطاقة المتجددة المجتمعية
• جامعة في الهند تقدم خبرتها في التعليم الرقمي منخفض التكلفة
يتبادلون الخبرات دون تحويل دولار واحد
الصناديق الاستثمارية الأخلاقية: مستثمرون يموّلون أبحاثاً لا لربح مالي بل لربح مجتمعي. العائد: النسبة المئوية للأسر التي خرجت من الفقر، المساحات الخضراء المستعادة، الأمراض التي تم القضاء عليها.
من الكاتدرائية إلى الحديقة
الجامعة التقليدية بُنيت على استعارة الكاتدرائية: مبنى ضخم، هرمي، مغلق، يحتاج إلى كهنة (الأساتذة) وطقوس (المحاضرات) وكنوز (المكتبات).
الجامعة التي نريدها يجب أن تُبنى على استعارة الحديقة:
• تنوع طبيعي: نباتات مختلفة (تخصصات) تعيش معاً
• خصوبة ذاتية: النباتات الميتة تخصّب التربة (الفشل يغذي التعلم)
• دورات موسمية: ليس نمواً خطياً بل دورات من الخمول والإثمار
• تفاعل مع البيئة: ليست مساحة مسيجة بل جزء من النسيج الحضري
• جمال وظيفي: الجمال ليس للعرض بل لخدمة النظام البيئي
العلم كصلاة جماعية
في النهاية، العلم الحقيقي ليس عملاً فردياً ولا مؤسسياً، بل صلاة جماعية للمجتمع البشري. صلاة ليس فيها كاهن ولا مذبح، بل مجتمع يبحث معاً عن الحقيقة.
السمعة التي نطاردها اليوم هي كالتمثال الذهبي الذي يعبده الناس ونسوا أنه من صنع أيديهم. الجامعة التي تنتصر هي التي تتجرأ على كسر التمثال، وتعود لتسجد للحقيقة العارية: الحقيقة التي تظهر في عيون طفل يتعلم، في يد مزارع يبتكر، في عقل شاب يتساءل.
السؤال الأخير الحقيقي: عندما تستيقظ غداً كباحث، هل ستذهب إلى مكتبك لـ”تعمل”؟ أم ستذهب إلى عالمك لـ”تتعلم”؟
الفرق بين الاثنين هو الفرق بين مهنة ورسالة، بين وظيفة ووجود، بين سمعة على ورق وذكرى في قلوب الناس.
العلم الذي لا يجعلك أكثر تواضعاً ليس علماً، بل غروراً منهجياً. والجامعة التي لا تعلمك كيف تموت عن غرورك المعرفي، لتعيش لخدمة غيرك، ليست جامعة بل متحف للأوهام.
فليكن علمنا حديقة، لا كاتدرائية. وليكن نجاحنا خضرة تظلل الآخرين، لا برجاً نختبئ فيه من الشمس الحارقة للحقيقة.
الخاتمة: من أبراج العاج إلى حقول الحياة
ليس المصير المحتوم لكل فكرة عظيمة أن تتحول إلى مؤسسة، وليس قدر كل مؤسسة أن تتكلس إلى نصبٍ تذكاري. الأزمة التي نعيشها ليست أزمة منهج أو تقييم، بل أزمة تخيل. لقد فقدنا القدرة على تخيل العلم كشيء آخر غير الأوراق، والجامعة كشيء آخر غير الأبراج، والنجاح كشيء آخر غير الأرقام.
لكن التاريخ يعلمنا أن كل أزمة تخيل هي، في جوهرها، دعوة للتخيل من جديد. دعوة لأن نرى الجامعة ليس كقلعة تحمي المعرفة من جهل العامة، بل كجسر يصل بين عمق الفكر واتساع الحياة. دعوة لأن نرى الباحث ليس ككاهن في معبد، بل كفلاح في حقل – يقلب التربة، يزرع الأسئلة، و ينتظر بصبر أن تنبت الإجابات.
الخلاص لا يكمن في إصلاح النظام، بل في تغيير الحكاية التي نرويها لأنفسنا عن لماذا نبحث، ولماذا نعلم، ولماذا نوجد كمنتجين للمعرفة.
هل نحن هنا لنثبت ذكاءنا للعالم؟ أم لنخفف من غربة الإنسان في الكون؟
هل نحن هنا لنبني سيرتنا الذاتية؟ أم لنبني عالماً يستحق أن يعيش فيه أحفادنا؟
هل نحن هنا لنحصد الاستشهادات؟ أم لنزرع بذور الأمل في تربة اليأس؟
الجامعة التي تستحق البقاء ليست تلك التي تحمل أكبر عدد من النجوم في تصنيف، بل تلك التي عندما يدخلها الظلام، تكون هي الشمعة التي لا تبحث عن من يرى ضوءها، بل عن ظلمة تحتاج إلى إنارة.
في النهاية، السمعة الحقيقية لا تُقاس بعدد الذين يذكرون اسمك، بل بعدد الذين لم يعرفوك قط، لكن حياتهم تغيرت لأنك وجدت.
نشيد الباحث الحقيقي
أَيُّهَا العَالَمُ لَسْتُ أُرِيدُ نَجْمَةً *** فِي سَمَائِكَ أَوْ لَقَباً عَلَى البَابِ
أَنَا لَمْ أُخْلَقْ لِأَكُونَ رَقْمَاً *** فِي جَدَاوِلِكَ المَحْفُوفَةِ بِالعِقَابِ
أَنَا جَذْرٌ يَتَوَسَّدُ أَحْضَانَ الثَّرَى *** لَيْسَ يَبْغِي ظِلالَهُ فَوْقَ السَّحَابِ
عَقْلِي حَقْلٌ لِأَسْئِلَةٍ مُحْرِقَةٍ *** كُلَّمَا أَجَبَتْ زَادَتِ السُّؤَالَ اشْتِعَابِ
لَيْسَ يَسْعَى وَرَاءَ نَارِ الْمُجَامِلِ *** يَرْتِوِي مِنْ مِيَاهِ حِكْمَةِ الحِقَابِ
يَبْنِي مَعْرِفَةً كَخَيْطِ النَّمْلِ *** صَبْرُهُ فِي التَّرَابِ لَيْسَ عَلَى الرِّيَابِ
رُبَّمَا لَنْ يَكُونَ فِي التَّارِيخِ اسْمِي *** وَسَتُذْرَى أَوْرَاقِي كَغُبَارِ الكِتَابِ
لَكِنَّ السَّاقِيَةَ الَّتِي حَفَرْتُهَا *** سَتَرْوِي مِنْ بَعْدِي أَجْيَالَ العِطَابِ
لَيْسَ يَخْشَى عَلَى مَكَانَتِهِ زَائِفاً *** مَنْ يَرَى فِي جُرْحِ الأَرْضِ مَسْؤُولِيَّتَهُ
وَيَرَى فِي عُيُونِ الْجَائِعِينَ سُؤَالَهُ *** وَيَجِدُ فِي بَسَاطَةِ الْحَقِيقَةِ جَمَالَهُ
فَإِذَا كَانَ عِلْمُكَ لَمْ يُطْعِمْ *** وَلَمْ يَكْسُ وَ لَمْ يَسْقِ ظَمِياً فِي اللَّهَبِ
فَاتْرُكِ الْعِلْمَ لِلْمُتَكَسِّبِينَ بِهِ *** وَاذْهَبِ الْتَمِسْ إِنْسَانِيَّتَكَ مِنْ رَحَبِ
وَاخْتَرِ الْجُرْحَ مَوْطِناً لِفِكْرَتِكَ *** وَاجْعَلِ الْقَيْدَ مَادَّةً لِاخْتِرَاعِ
فَالَّذِينَ يُحَاوِرُونَ الْحُطَامَ لَنْ *** يَبْنُوا إِلَّا قُصُوراً مِنَ الرِّمَادِ
أَيُّهَا الْبَاحِثُ عَنْ جَذْرِ الْمَعَانِي *** لَيْسَ فِي الْأُفُقِ الْبَعِيدِ مُنْتَهَى السَّفَرِ
إِنَّمَا الْحَقُّ تَحْتَ قَدَمَيْكَ نَبَاتُهُ *** فَانْحَنِ لِلأَرْضِ تَسْمَعْ صَوْتَ الْخَفَرِ
فِي سَكِينَةِ الَّذِينَ لَا يُسَاوَمُونَ *** عَلَى ضَمِيرِ الْمَعْرِفَةِ وَالضَّمِيرِ
سَيَبْقَى الْعِلْمُ رَغمَ زَيْفِ الزَّمَانِ *** لُغَةَ الْقَلْبِ الْكَبِيرِ لِلْقُلُوبِ الْكِبَارِ
لَن نكونَ أرقاماً في جدولِ الزمنِ *** لسنا ظلاً لِأوهامِ العُلا
نحنُ بذرٌ في ثرى الإنسانِ *** ننبتُ في القلوبِ لا في الجداولِ والقوائمِ المليا
فإذا كان العلمُ لا يزيدُ الحياةَ جمالاً *** ولا يُعيدُ للإنسانِ إنسانيتهِ الضائعةَ العليا
فلنتركْهُ لمن يلهثونَ وراءَ الأسماءِ *** ونبحثْ عن الحقيقةِ التي تُعيدُ للروحِ صفاءَها الوليا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى