المزيد

كيف لبشر مات منذ نصف قرن أن يظل في قلوب محبيه كما لو كان يطل عليهم كل صباح؟. كيف يضاف سواد قلوب كارهيه إلى بياض كفنه؟. لماذا يعيش عبد الناصر حتى في موته؟. 

مات عبد الناصر وأنا في الثانية عشرة من عمري. سمعته كثيراً فاشتد به عودي، وكبرت ونضجت كما يكبر المعنى وينضج في بحر محبته. أحببت هذا الرجل أكثر من كل البشر الذين خلقهم الله. أحببته حتى أكثر من أبي، فـ”أبوة الروح” لا تساويها أبوة النسب. أحببت جمال عبد الناصر هازماً ومهزوماً. أحببته، حتى أنني لم أقدر على كتابته، أنا الذي احترف الكتابة وعرف أسرارها. فقط.. كتبت مرة نصاً صغيراً موجزاً بعنوان (بشرُ أنا كالآخرين).. فسلامُ على روحه التي مازالت وستظل تحلق وتبتعد.

……………………………………………………………………………………………….

[كان لدي أبي دكان بقالة صغير يطل على وسعاية، يحدها من الجهة المقابلة للدكان حوش بهائم تحول إلى خرابة، وأطلال غرزة قديمة، ويتوسطها محول كهرباء صغير: شاي وسكر وصابون وعدس وزيت وملح ودقيق وسجائر وأقراص حلاوة بالسمسم والحمص. وعلي واجهة الدكان صورة عبد الناصر ملصوقة بعجينة قمح: الكتفان بعرض الصورة، لكن الوجه أوسع من الأفق.

كان أبي يبيع ويشتري بالمليم، وكان يلف بضاعته الفقيرة في مانشيتات ورق جرائد: “عبد الناصر يخطب”.. “عبد الناصر يتحدي”.. “عبد الناصر يبحث”. وكان القرش علي القرش ثروة. كانت صورة عبد الناصر تنكفئ قليلا فوق رأس ناظر المدرسة، الأستاذ “حمد الله كده وبتاع”. وكانت أصواتنا تندلع في الفناء: “تحيا الجمهورية العربية المتحدة” ثلاثاً مرات، ومثلها “عاش الرئيس جمال عبد الناصر”. ثم تحلق في خلاء القرية مثل غيمة، فتنكسف الشمس دقائق، تخرج بعدها علي الناس: “زوجتك نفسي”.

كان رزقنا حلالاً، وعشقنا حلالاً، وخوفنا حلالاً، وغناؤنا حلالاً. كان كل شيء في حياتنا حلالاً طيباً، لأن “أبانا” يحبنا ويحرسنا ويعطف علينا. يجلس معنا أمام عتبات البيوت صيفاً، وعلى أسطح الأفران في زمهرير الشتاء. كان يتمدد في الأحلام والحكايات والمواويل.. وفي الخرافة أيضاً: “لو أبوك جمال.. عدي البحر من غير ما تتبل”.

لا شأن لنا بـ”متي ولد ومتي يموت ومتي يبعث حياً”. أين يعيش، وكيف وماذا يأكل ويلبس!. هل يضحك ويبكي مثلنا؟. هل يمشي علي الأرض فيخرقها أم علي مجرة بين سماءين؟. ما اسم زوجته؟. كم ولداً وكم بنتاً لديه؟. ما كتابه المفضل وفيلمه المفضل وفريقه المفضل وأغنيته المفضلة؟. لا شأن لنا بذلك، لأن أبانا ليس دماً ولحماً مثلنا، بل شظية ضوء اندلعت حين التقي في قلوب الرعايا صوته المجلجل بصورته المعلقة علي واجهة دكان أبي. وكان أبي يقول لي مزهواً: “عش بشرفك ومت بكبريائه.. لتراه في الجنة”].

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى